حدسي يقول لي أن السيّارة قادمة؛ انّي أشعر بها، بوجودها وبحركة المقود الى اليمين، ضوء خافت كضوء الله يتوقّد في داخلي، يضيء ذهني لهذه الفكرة، السيّارة قادمة وعليّ أن أدرك ذلك قبل فوات الأوان.
أنهض عاريًا، أرتدي الكالصون، أزئر كأسد جائع، أمشي نحو الخزانة، أفتحها، أجلس بداخلها قليلًا لأمارس الخوف، الخوف من الخوف، الخوف من أجل الخوف، وأترقّب خروج القرن.
بعد ذلك:
أفتح النافذة على شارع العرب، الشارع الملعون بانعدام الادراك، وأرجع خطوتين للوراء، أتنفّس بعض الهواء العكر، ويمتصّ صدري ضجيج الشاحنات، ثمّ أتأمّل تلك الحسناء الجميلة التي تنشر سوتيانها الأحمر على حبل الغسيل، يوم مشرق هو يوم النهود، وضعت يدي على بؤس الشرفة لأتوجّع شروق الشمس هذا الذي ما فتأ ينبعث حتّى ساد الظلام المخيّلات، واكتسح السواد تلك الوجوه العبوسة والممحية…
انّه شروق شمس يومٍ جديد، يوم عدمي كباقي الأيّام، تخلّف جديد وعنف جديد،خطوة أخرى نحو الموت، يختفي الضوء في الحدقية، وتختفي الصورة بشكل طفيف لتراوح وجودها المتعثّر، تنتابني حيرة ما، قرن الجبهة هذا يراودني شهويًا في الادراك، في بوابة الشارع يافطة كبيرة تتزيّن بثلاث كلمات هي الشعار الرسمي للشارع: الطائفيّة، العنصريّة، الجهل، أمّا الكلمة الأكبر التي تظهر جليًا فوق مركز التسوّق الكبير في المدينة فهي: المحو..
لست أرى الألوان الّا في ذلك السوتيان الأحمر ، وحده ذلك السوتيان يعيد للحياة ألوانها.
استعداد…
تحيّة العلم
يرفرف السوتيان ويتطاير مع الريح، وأزداد أنا تعلّقًا به، احترامًا له، انّه الشيء الوحيد الباعث على الحياة في هذه الفوضى الميتة، يتحوّل العالم الى الأبيض والأسود، ويبقى لونه الأحمر القاتم منفردًا، مختلفًا، وسط ضجيج النطاف البشرية التي تستعد لدخول أقسامها في ساحة المدرسة أسفل الزقاق..
تنهّد…
يختفي السوتيان أيضًا
يظهر البؤس ثانيةَ
شارع العرب؛ رصاصة محليّة الصنع تخترق زجاج المقهى لتردي وردة حمراء قتيلة في المزهرية، يتوقّف الحب، يرتفع الكبت، تعود الرصاصة أدراجها لتدخل في مسدسها ثانية وتعاود نفس المشهد من جديد، تنطلق وتعاود الكرّة مرّة تلو أخرى بلا توقّف، لتمارس الحب مع الموت، لا أحد يهتم للون الأحمر المتدفّق من الورود ، يحتسي الزبون القهوة وينصرف الى عالم الاسمنت. الازفلت، الحجارة والركود.
اللغة الرسمية في هذا الشارع هي لغة الخشب، الرأي هنا كغشاء البكارة، ثابت، عنيد صعب المنال وسهل الهتك، اللغة هنا كالنجارة، وكلا شيء… لاشيء:
لا شيء كان واضحًا في هذا الشارع، الأقدام تراوح مكانها، تتجعّد وتتقلّص، تختفي خلف أفق ذاتها، ثمّ تعاود الظهور، تملأ نفسها لتعصرها كاسفنجة مبلّلة، ثم تقفز من رصيف الى آخر كالبرغوث، تزداد عفونة الماء الراكد أمام المحلّات مع ترسّب الأفكار البالية في الرؤوس، ثمّ يتسلّق الانغلاق الفكري المباني العقلية ليتحوّل بشكل مؤسف لدهان رسمي لتلك العمارات الرمادية.
انّه يوم آخر من النافذة، كل شيء يبدو غريبا مع أنّ كل شيء رويتيني حدّ الضجر، يقارب المشهد أن يتكرّر في ذاته ألاف المرّات، أمّا ساعة المدينة الكبيرة فتشير عقاربها دائما الى الرقم صفر، تدور في مكانها غير مبالية بشيء الّا المرور، التكرار، يستلقي الزمن في قيلولته لينتظر عواء الذئب، وللموت.
يدغدغني القرن قبل خروجه، تشعر جبهتي بتحكّك مفاجيء، ثمّ ينقضّ الادراك على عقلي لأرى ما لا يراه أحد هنا، وأن أفهم للحظات قليلة اشكالية التخلّف الاجتماعي وأسبابها، ثمّ يعود الادراك الى الداخل بمحض ارادته، ينفجر الى قطع صغيرة ثم يتلاشى تدريجيًا في النسيان.
مظاهرات، وقفات احتجاجية، طوابير لشراء الخبز، طوابير أخرى لدفع فاتورة الماء، الكهرباء،طوابير أمام المدارس، طوابير أمام المستشفى، وأخرى أمام غرف حفظ الجثث، زحمة سير في الطرقات، حالة من الاشباع، من الكبت والامتلاء، التكرار ثم الترسّب، تنتهي دائما بالاستفراغ …
يخيّل لك دائمًا الشارع العربي ككائن جماعي، عقل جمعي مركزي، يتحكم في العقول الشبه فرديّة،و الملغاة، وتقريبًا الفرد هو ذاته التيّار الجارف، هو ذاته المجتمع، في حاجة ذئبية دائمًا في قطيع آوي، الالغاء هو البروز الأوّل في هذه الفوضى الجماعية، حالة من قطيع بشري يفترض نفسه، ويفرض واقعه بكل الأدوات وأقواها المحو، المحو الذاتي لأجل الأله الأوّل، الجماعة المقدّسة…
هناك دائمًا وجوه مكرّرة في كل شيء، الوجه ذاته فوق تلك الأجساد التي تبدوا مختلفة، رقاب شاهقة كالمآذن وتقريبًا لا وجوه، تمشي في الشارع للبحث عن الوقت البدل الضائع، تلتفت يمينًا ويسارًا لتبحث عن بقايا انسان متجمّد، مستحاثة، لا وجه يبدو ناضجًا، الضياع، ذلك الوجه ربّما قد اكتمل، ربّما الوجه الذي أمامه، لا شيء، الخيبة، انّه المحو، وكأنّ الجميع قد ولدوا في الشهر الرابع للحمل، ثم نمت أطرافهم وبقيت وجوههم وحدها تبحث عن مشيمة ما ليكتمل نموها دون جدوى، يبدأ لونك في الاختفاء في هذا الخوف الذي يسمى مجتمعًا، تتحوّل شفاهك للون الأزرق وأنت تتأمّل تلك الأشباح من حولك ، تستطيع أن توقف أحدهم وترسم على وجهه ما تشاء دون أن يشعر، خربشة أطفال تبدو مناسبة جدًا للتعبير عن مدى عبثيّة تلك الوجوه.
عبوس، مزاجية، تقلّب، ابتسامة صفراء، وجري نحو المجهول، يبدو الجميع متأهبًا لسباق ما، لا تتوقّف عربة الميترو الّا ورأيت الجميع يجري متزاحمًا نحو شيء واحد ” البطالة “، يبدو أنّ الناس هنا قد غرقوا في الصور النمطية التي قد زرعها التلفيزيون في أذهانهم، عن ضرورة التدافع، الجري، القفز والنط، التسلّق، التطرّف، التسارع، دعني أيّها العربي صريحًا معك، الوقت ثمين لألائك الذين لا يجدون وقتا للفراغ، وليس لألائك الذين لا وقت لهم الّا الفراغ…
عدم، يتّحد العدم في جبهتي على شكل كرة طاقوية، مضيئة، ثمّ ينادي أحدهم للصلاة، فيخرج قرن من جبهتي لأنطح الجدار بقوّة،تهتزّ ذرّات الحائط فيغدو شفّافًا، أرى جارتي المومس في الغرفة الموازية وهي تضاجع ذلك الشيخ المتهريء، يصارع في التواء غريب تجاعيد جلده الهارب منه ليقاوم أكوام الشحم المتكدّسة فيها والتي تشدّ وثاقها في السرير، لقد تجذّرت فيه، كما يتجذّر الحاكم دائمًا في الكرسي، هاهي تتجذّر في بقايا العفن السياسي، لا يبدو وجهها سوى مهبلًا كبيرًا، شق طويل في الوسط يشبه انقساماتنا السياسيّة، وانفتاح منافق يبحث دائمًا عن سدّادة قضيبية، لا أستطيع أن أسمع شيئًا من لغتها سوى الطمث، اللغة ليست سوى طمث، يتدفّق الطمث من فمها كشلّال من حروف، يتجمّع في الأذن السفلى للحيوان الثديي الذي فوقها، لقد فقدت قدرتها على أن تكون وجهًا، على الأقل هي لم تمحه كاملًا اختارت جزءها السفلي ليغطي على الفراغ الوجهي الذي يستفحل الجميع، مهبل بدلًا عن وجه أحسن من لاشيء في كل الأحوال في هذه البيئة الفاقدة للوجه، البيئة الفاقدة لأي معنى ولأي ملامح.
خطّان متوازيان، دائرة في الوسط وخربشة بقلّم اللبّاد الأصفر، بعض البصاق، تمزيق الورقة، انكسار الضوء، التجمع في حلق التنين، النار، الماء، التراب، وباقي مكونات الحياة، ثمّ تمتلأ عيناي بغاز الميثان، تتلوّى حدقيتي على نفسها، وتقترب من المشهد بصمت، الأعضاء تبدو وتختفي بتكرار، تدخل السيّارة، تواصل السير انّي أشعر بها، صوت عجلاتها يمشي على أوتاري الداخلية، انّي أدركها بلا حواس، من ثقب الباب الذي صنعته العاهرة لكي تعيش، لزالت السيارة تدخل شيئًا فشيئًا، بهدوء، كاصطياد الفريسة، وكماء الينبوع، انّها تزحف، وستنقض على فريستها كالعادة…
رائحة الهرمونات كانت تزيد من اهتزاز ذرّات الجدار، وتتكرّر خصى الشيخ في كل مساماته، يتنامى خياله بشكل مرضي ليتشابك مع ظلّ المشجب، ايلاج آخر مع خيالات الانكسار،انّها ليست غرفة، انّها الغابة…
رائحة وبر الثديّيات تنبعث من ذلك الحيوان البشري المزكّى بحبّة الفياغرا، الوضوء الأزرق، قدّاس يوم اللذّة، تنقشع لحظات الغيب في قذف وصراخ، ثمّ تعود الذرّات ثانية لتحجب عنّي ما رأيته.
يبنى الحائط ثانية…
أتّجه جريًا لأنطح الجدار الموازي، فيبدو لي الصديقان المتديّنان وهما يصليان مع بعض فوق سجّادة واحدة، في هدوء وابتسامة صغيرة، ترتبط لحيتهما بشكل ضفائر طويلة مع ثريّة السقف، يتهاوى السقف في عباياتهما كقطعة السماء، تحيّة، فتسليم، فقبلة،يقبلّه قبلة مصٍّ لطيفة من شفّته السفلي، يعود السقف مجدّدًا لعليائه وتبدأ موجة الليبيدو، يختفي الأنا الأعلى ويوضع في الدرج مع خلع العباية، يوضّب في الخزانة مع باقي الملابس التنكّرية وتتحوّل اللحية الى فانتازم جنسي…
تمّ محو المرأة بنجاح، حجاب فنقاب فالغاء، تشقلبات ذكورية وانكماشات في الغدد، يتكاثف نشيد البروستات ليرافق الايمان بالخالق الواحد.
السيّارة تقترب أكثر…
تعود ذرّات الجدار ثانية لتتكوّن فيختفي المشهد تدريجيَّا، أطير عاليًا لأنطح السقف فتظهر ملائكة السماء في حرب طائشة لأجل براميل البترول، تظهر ورقة دولار كبيرة فوق السحاب ثمّ تطير هاربة الى فردوس النعيم، تتراكم الغيوم في سحابة واحد ثمّ تنفجر لتغرق قوارب المهاجرين الغير شرعين الى الضفة الأخرى من السماء.. يظهر وجه القائد الكبير وهو يلتهم جثث الأطفال، فيغدو الموت وحده الرب الجبّار.
يعود القرن مجدّدا للاحتكاك، يكبر قليلا، تختفي جميع الجدران، أطير في شفافية تامة،أرى المجتمع بأكمله جاثمًا أمامي، كل الأجساد عارية محيطة بي كدوران الحج وعقارب الساعة، تتقلّب في مكانها وتتكوّر، ترتفع وتنزل، ثمّ تدنو للأرض على طريقة القرفصاء ترفع أيديها الى السماء وتصلّي…
أو تكفي الصلاة لتغطي هذه السوءات؟
قالت لي أمّي يومًا ما قبل أن يصيبها الشلل: أو لم يكفي أجدادنا أوراق الأشجار ليغطو عن سواءاتهم؟
قلت لها: بلا…
فأجابت: أو لا يكفي الله؟
قد يسع الله كلّ شيء، الّا هذه الحالة المتعفّنة والمتقدّمة من العري، العري الممحى، العري الملغى، العري العاري من العري…. هل هو عاري أيضًا؟
عارية تلك الأجساد، أثداء طويلة بلا حلمات، وقضبان تتدلّى مقطوعة الرأس، تفرد الأجساد أطرافها محقّقة للحرف ” أكس”، فيتحوّل الجميع مجدّدًا للمجهول؛ الجميع يجهل نفسه، كينونته، طبيعته، هم يقومون بنفس الحركات، الشقلبات، خطوتين للأمام وثلاث خطوات للوراء ثمّ يتشقلبون في الفضاء فتبدو عوراتهم متجلّية للهواء.
وحتى في هذه الرقصة اللاواعية التي يستقطبها قرني من أفكارهم، لا يتوانى هذا الشعب المريض عن تقديس الحركات الجماعية ورفض الخروج عن المألوف، يدفع بعضهم البعض الآخر بكل حسد نحو نسيان الخطوات ، يرتبك بعض الذكور في رقصته بينما تشدّ الاناث على مهابلها ثمّ تقذف الدم في وجوه الذكور، هؤلاء الذين يبدون في أوجّ سعادتهم وهم يغسلون وجوههم بماء الشرف، بينما تسقط بعض الاناث قتيلة الافتراس الذكوري..
انّهم يبدون في قمّة جهلهم ومحوهم، يدور بعضهم في مكانه ثمّ يكبر الاعصار، تتلاشى الأعاصير الصغيرة في الأعاصير الكبيرة وتتحوّل الفكرة المقدّسة الى عاصفة، وتنتشر آنذاك رائحة العدم…
انّهم الراقصون، الممحيّون، رقص التجاهل الذاتي، رقصة التناثر الاجتماعي، والأشلاء الحيوانية اللادراكية.
يمسك بعضهم المتبقّى، الأيادي الرخوية للبعض الآخر، ثمّ يتحوّل الجميع الى أجسام رخوية بدورها فاقدة لهياكلها العضمية، يدخل بعضهم في بعض في شكل عجينة ملوّنة في البداية ثمّ تفقد لونها شيئًا فشيء ويتحوّل الجميع الى ضوء يمتصّه قرني ويمتدّ الى نخاعي الشكوي على شكل سيالة عصبية زرقاء…
تختفي حفلة المحو، عندما يتحوّل الراقصون الى عجينة، ثمّ يأسرني شعور غريب بالتقيؤ الاجتماعي، أنثر فضلاتهم الفكرية وتخرج مجموعة من حروف أكس من فمي لتنتشر في الغرفة كذباب أزرق لبرهة من الزمن ثمّ تختفي بدورها.
تبدأ الجدران بالظهور…
حينها أسمع صوت عصر مكابح سيّارة ما، أسمع صوت صدمة ما تشبه صدمة الأفكار الجريئة، ثمّ يبدأ المبكى والنحيب، أجري نحو النافذة بعد ، لأسترق النظر للوجوه الشاحبة، أعين بلّورية جاحظة تلتهم جثّة طفل بالكاد تعلّم ركوب الدرّاجة، بعد أن قذفته سيّارة ما نحو الجهة الأخرى من الشارع، الكل يصرخ: “تحطّمت الدرّاجة، لقد تحطّمت تلك الدرّاجة”، لا أحد يهتم فعلًا لحياة الطفل، لا أحد يهتم لتلك الجثّة المستلقية على دمائها في الشارع سوى أمّه، بعض امرأة اخرى وجدت في بركة الدم أمامه مرآة جيّدة لوضع بعض التبرّج، وضعته أمّه في صدرها وراحت تبكي موته: ” يا نطفة زوجي الشهيد، يا آخر نطفة له في رحمي، يا بويضتي الجميلة لا تنصرف”، وقف الجميع أمامها، يمسكون بناطيلهم بأطراف أصابعهم مستعدين للقذف
قذف في الحياة، ثمّ قذف في الجهة الأخرى من الموت، دائمًا ما يُقتل الناس هنا في لحظات من السهو، من فقدان الادراك، تأتي السيّارة من مدخل الشارع على أنظار الساهين، تدهس أحدهم، ومن ثم تفرّ من مخرجه، أمّا والكلّ قد أمعن النظر فيها، بحواسه،الّا أنّ لا أحد هنا يتذكّر القاتل، تتفتح عيونهم ثمّ يملأ ها البياض، عند لحظة القذف، يتدفق بؤبؤ العين كالزئبق الى الأرض ثمّ يطير الادراك فجأة الى عالم آخر في السحاب حيث تفرّ روح الضحية، يسحب من الساحة ليتحوّل الى نسيان فتنسى السيّارة وكأنّها لم تكن، بمجرّد خروجها، لا أعلم ان كانت هذه الحالة طبيعيّةً أم نمط عيش اجتماعي يصعب التغلّب عليه، لقد كان عليّ أن أسهب في التمعّن قبل أفول القرن لأرجع غير واع كالجميع
-أحدهم: لقد شاهدته وهو يُقذف في السماء
-أحدهم آخر: كان يتلوّى من الوجع ثمّ انقضّ عليه الذئب فأكله
-أحدهم ثالث: لم أرى الذئب ولكنّي رأيت الوجع وهو يتدفّق من درّاجته المحطّمة..
-أحدهم رابع: من قتله؟ من قتله؟ من حطّم درّاجته بهذا البرود؟
-أحدهم خامس: الذئاب كالعادة؟
-أحدهم سادس: لا بل صاحب الظل الطويل هناك ذي القبّعة..
-أحدهم الأوّل: هل أنت متأكّد؟
-أحدهم السادس: نعم أنا متأكد؛ قبل أن يُقذف هذا الفتى في السماء، كان ظلُّ ذلك الرجل هناك قصيرًا، ثمّ امتدّ ظلّه فاصطدم فجأة في درّاجة الطفل…
-أحدهم الخامس: طبعًا وهل لأحدٍ فينا ظلّ طويل كهذا؟
-أحدهم الأوّل: ما السبب في طول ظلّ ذلك الرجل؟
أحد المارين على الحوار: قبّعته جميلة…
أحدهم الرابع: السبب في طول ذاك الظلّ هو ضوء الشمس
أحدهم الثالث: لا، السبب في طول ظلّه، جلوسه في زاوية الاضاءة تلك…
أحدهم الثاني: ذاك الظل ليس ظل الرجل بل ظل عمود الكهرباء الذي يتّكأ عليه…
أحد الشيوخ الطاعنين في السن: لا ظلّ للعمود في عُرفنا…
أحدهم الثاني: ولكنّي أرى ظلّ العمود..
أحدهم أوّل: قبّعته جميلة فعلًا
الشيخ: وان يكن، لا تغيّير في عرفنا، لا ظلّ للعمود، لا جدل في هذا
تقترب الجماهير من أحدهم الثاني وتصرخ بصوت واحد: لا ظلّ لعمود الكهرباء…
يصغر حجم الثاني فيدعسه الشيخ بقدمه كما يدعس عقب السجارة ، ويعود الحوار الى اهتزازاته:
واحد، ثلاثة، أربعة، خمسة…
الشيخ : من صاحب الظل؟
تقول إحداهن : ومن يهتم المهم ـأنّ قبّعته قبعة نسوية؟
تقول احداهنّ أخرى : نعم أظن ذلك؟
تقول الجماهير : هل هو رجل أم امرأة؟
يقول أحدهم الأوّل : لا هو رجل، حذائه رجالي، معطفه رجالي… ولكن.. لكن… قبعته ؟ أهي مستديرة الشكل أم مربّعة؟
أحدهم ثالث: أنّها مربّعة
أحدهم رابع: انّها مستديرة
فتيان مارين: قبّعته مستقيمة كالأقواس، وكروية كالهرم الذي درسنا عنه
الأخريات: لبدّ انّه القاتل؟
الآخرين: لا بل ظلّه
… يموت الشيخ، فيدعسه الجميع وينصرفون وكأنّ الحديث لم يبدأ بعد
يدور نفس الحوار من جديد بين آخرين
الرجل لم يكن سوى معطفًا وقبّعة على مشجب في محلٍ لبيع الملابس…
تتحوّل الاسئلة هنا الى هوس بالاقناع، يتمسّك الجميع بالصورة التي يصنعها في ذهنه عن الأشياء ويقيّد الآخرين بها، الزاوية الوحيدة هي الزاوية المطلقة، أمّا لمواطن أكس فيبدو غير مكترثٍ بحروف الأبجديّة الأخرى، التعدّد هو الموت وعادة ما تكون الأسئلة مجرّد ايماءات جسديّة للتعبير عن اللاسؤال، فعادة في عالم المحو يتّخذ الجمود الفكري قناع الحركيّة الفكريّة المزيّفة، وعادة في مجتمع الأوعية الفارغة هذا السؤال هو تعبير اللادراك وليس عكس ذلك…
قذفت السيّارة ذلك الطفل المسكين، شاهدها الجميع وهي تدخل الشارع لتقتل عضوًا آخر فيه ثمّ لتخرج بسلام من الجهة الأخرى ولكن لا أحد أمعن النظر فيها، لقد فقد الجميع الادراك وانساقو خلف أمراضهم النفسيّة، وانحاز السؤال عن جادة صوابه وفقد الموضوع الأهم رونقه في ظلّ صعود الأسئلة الثانوية بسرعة غير آبهة بمعلم الحدث…
يواصل القرن احتكاكه ويكبر في جبهتي مستعمرًا وجهي بكامله، أفقد قدرتي على الابصار وأدخل في نوبة لاوعية من الرياضيات، تنطلق الأفكار بشكل هيستيري من الأسفل الى الأعلى لترسم بذهني اشكالًا أخرى، أنّها المعلومات الابتدائية لتحليل أركان الجريمة…
أفقد حينها اسمي، وصورتي، وجسدي، وأصبح آلة حساب، وعند اقتراب الوصول الى الاجابة النهائية، تغدو كل الأرقام أصفارًا ويصغر القرن رويدًا رويدًا، وأعود لحالتي الاجتماعية، مجرّد أكس آخر، أكس في حفلة تنكّر يلعبها الجميع في شارع العرب.
أبدعت يا شقيق اسمي ❤