في العديد من المقالات كنت تحدثت عن هذا المصطلح “الاصطفاء الحضاري” او عن شبيهه” الاصطفاء الاجتماعي” و نظرا لاهمية المصطلح في ابراز وجهة نظري اردت ان اعرفه اكثر للقاريء فعلى ضوء هذا الاخير تتفرع افكاري و تزهر و من خلاله اثبت امكانية بروز الحضارات من جديد و ازيل الخوف الموجود في قلب كل مجتمع يشعر بالتهديد لهويته بسبب هذه العملية التي اصبحنا في امس الحاجة لها و قد دخلنا منذ مدة طويلة في سياقها دون ان ندري و ان الخروج عنها يعني الانفصال عن الجسد البشري الذي هو حتمية لنا و الهوية الجامعة لنا كبشر و الاولى و النهائية و هو قدر محتوم لا رجوع عنه فاما ان ندرك ميكانزمات هذه العملية او ان نذوب اجتماعيا في المجتمع البشري العام دون ادنى تاثير في هذا الاخير و دون ان نضع بصمتنا فيه
لقد الهمني الاصطفاء الطبيعي و الانتخاب الطبيعي او نظرية داروين للتطور البيولوجي في وضع هذا المصطلح فانا قمت بعملية اسقاط و لفهم الاصطفاء الحضاري علينا اولا ان نفهم الاصطفاء الطبيعي او الانتخاب الطبيعي
الاصطفاء الطبيعي هي الية اقرها العلم في تطور الكائنات الحية عبر تاريخها البيولوجي و تحدث على مستوى الجينوم او جينات الكائن الحي حيث تمكن هذه الظاهرة من ارتقاء الكائن الحي و تاقلمه مع بيئته و اكسابه وسائل افضل للبقاء و من هنا نجد الجمال تخزن الماء كونها تعيش في الصحراء و نجد دب القطب الشمالي بفرو اكثر و طبقة من الشحم سميكة تقيه البرد و هكذا فعملية الانتقال الوراثي من جيل الى جيل يحدث على مستواها خلل ما يحدث طفرات مع تراكم الطفرات قد تتغير الانواع مع الوقت كما ان عملية الاصطفاء الطبيعي تحافظ على الجينات الافضل للنوع فتكسبه سرعة افضل و وسائل دفاعية بل و حتى ذكاء افضل مثلما حدث مع الانسان و في تلك العملية تقوم الطبيعة الحية باختيار الافضل و ترك الاسوء و بالتالي تحسين النوع
اما الاصطفاء الحضاري فهي نفس العملية تقريبا تقوم في حيز اجتماعي بشري كبير بين الحضارات و ليست بين الجينات و كذلك بين اعضاء و اطراف المجتمع فاسميها اصطفاءا اجتماعيا فتاثير مجتمع على اخر يكون على نفس الوتيرة التي تكون في العملية الطبيعية تقريبا حيث يتم الحفاظ على الافضل و ادراء الاسوء فتتقمص الشعوب التي لا زادا فكريا لها شخصية الشعوب النشطة فكريا في ظل عولمة لا بقاء فيها للضعيف فكريا و البقاء وحده لمن ينتج ما هو افضل للمجتمع البشري العام
فلا عجب ان تطغى اليوم الانتاجات التكنولوجية لليابان مثلا او كوريا الجنوبية او الامريكية و الاوروبية على المجتمعات في كل العالم فذلك لان تلك الدول تنتج بينما الدول الاخرى النائمة تستهلك فلا داعي اذن لان نقول ان الدول الاولى استعمرت تكنولوجيا الدول الثانية بل هي تسد الفراغ و العجز التي تعاني منه تلك الدول و المجتمعات و هذا اساس عملية الاصطفاء الحضاري الذي يقوم على اساس المنافسة حيث هناك بما يشبه سوق للانتاجات الحضارية و الفكرية في العالم و هناك حتما الية اجتماعية تاخذ الصالح منها و تترك الطالح كما تاخذ الافضل او الاقل سوءا
و ان الحضارات منذ نشاتها الاولى كانت تحضر نفسها للاصطفاء الحضاري فكلما ترتبط مجتمعات باخرى عن طريق التجارة او طرق اخرى تكون هناك قنوات للاتصال اكثر بين المجتمعات كلما كانت فاعلية العملية اكثر ففي الاقتصاد مثلا هناك دول ليبرالية بشكل تام حتى قطاع الصحة و التعليم يخضع للنضام الراسمالي كالولايات المتحدة الامريكية و اخرى تخضع كل انظمتها الى النضام الاشتراكي ككوريا الشمالية و الاتحاد السوفياتي سابقا و لكن بسبب تلك المنافسة بين الفكرتين اخذت بعض الدول و هي الاغلبية الان شيئا من النضام الراسمالي في بعض القطاعات كالتجارة و شيئا من النضام الاشتراكي في بعض القطاعات كالصحة و التعليم و هذا بمثابة تفاعل بين النضامين مما اعطانا انطباعا عاما حولهما بضرورة اخذ الجيد من النضام الاول و الجيد من النضام الثاني و تعويض مساويء بعضهما بجيد البعض الاخر و هكذا يتم الاصطفاء
فالاصطفاء الحضاري هو تفاعل بين الافكار و اساليب الحياة و اللباس و الاختراعات و كل الانتاجات الفكرية و الصناعية يحدث بين حضارتين او اكثر و تكون بصفة عالمية فتتاثر بها الشعوب و الحضارات فكلما كان هناك انتاج في مجتمع ما فانه يؤثر بالضرورة في المجتمعات الاخرى باي شكل من الاشكال و لكن العملية كما سلفنا القول تحتاج منافسة لذا فلبد لكل مجتمع ان يقدم ما لديه للمجتمعات الاخرى حتى يضمن لهويته بصمة في عملية الاصطفاء و لكننا نرى بعض البلدان و منها البلدان الاسلامية راكدة و جامدة و ذلك لافتقارها للمادة المؤثرة فتصبح عاجزة امام مد ثقافة المجتمعات الاخرى العملية و العقلانية فتذوب في النسيج البشري دون ادنى تاثير فيه و هذه هي مشكلة بعض الشعوب حيث نجد محافظيها يحاولون مقاومة هذه العملية (الاصطفاء الحضاري ) بما يسمى النضال من اجل الهوية محاولين منع المجتمع من الذوبان في المجتمع البشري و الذي هو نضال فاشل منذ البداية حيث ان المجتمع سيتحد مع المجتمعات الاخرى و ان تولد الحضارة البشرية الموحدة هو قضية وقت فقط فان المقاومة الحقيقية تكون بوضع بصمة الهوية في هذه العملية لا بمحاولة الغائها حيث لبد من دفع المجتمع نحو الابداع الفكري و الفني و الادبي و الاجتماعي و فالفلسفي و العلمي و غيرها من الميادين و دفعه ليكون فاعلا في الاصطفاء لا ان يكون متاثرا فقط بل عليه ان يكون مؤثرا كذلك و هذا التاثير لا ياتي بتجميد عقل المجتمع بل باحيائه فالمجتمع ايضا يحتاج لاصطفاء اجتماعي ليولد افكار جديدة تكون قادرة على منافسة الافكار الاخرى القادمة من الشرق و الغرب و من الشمال و الجنوب
و الاصطفاء الاجتماعي هو عملية تقوم في ذات المجتمع بين اعضائه و افراده حيث يعطي كل فرد ما جادت به قريحته من افكار و ابداعات مختلفة في جميع المجالات و تدخل تلك الافكار في منافسة انتقائية تجعل بعض الافكار تبرز دون الاخرى و على الاصطفاء الاجتماعي ان يكون مجددا لكي يستطيع ان يؤثر في الاصطفاء الحضاري حيث يحدث في كل مجتمع اصطفاءا اجتماعيا يولد عدة افكار و وحدها الافكار الجديدة و الجيدة ما ستتبناها الشعوب على مستوى واسع لذا فعلى المجتمعات ان تكون مدركة لهذه الحقيقة ان كانت فعلا تريد ان تكون فاعلة على المستوى الحضاري فالمجتمعات التي تميل للقديم اكثر دون تجديد تكون حظوظها في الانتقاء على مستوى المجتمع البشري قليلة جدا بالمقارنة مع تلك المجتمعات التي تفرز فيه الية الاصطفاء الاجتماعي افكارا و انتاجات جديدة مبدعة و خلاقة فعنصري الابداع و التجديد مهمان جدا في التاثير على المجتمعات الاخرى “فلنكن صادقين مع انفسنا لا نتوقع ان المجتمعات في العالم ستتقبل افكارا بالية و قديمة بل هي في حاجة دائما للجديد”
لذا فعملية الاصطفاء الحضاري تقوم بالاساس على التطورات التي تحدث في كنف المجتمعات بعملية اولية هي الاصطفاء الاجتماعي و التي وقودها هو الحرية الفردية و الفكرية في ذلك المجتمع فكلما كان الفرد فاعلا في مجتمع ما كان ذلك المجتمع مؤثرا في المجتمعات الاخرى و كلما كان الفرد في مجتمع ما مقموع و مقيد كلما كان تاثير المجتمع على المجتمعات الاخرى ضئيلا جدا ان لم نقل منعدما و الاصطفاء الحضاري قائم في حد ذاته لن يمنعه مجتمع ما من الحدوث و كل مجتمع يخرج عن هذه الالية فهو يحاول ان يفصل نفسه عن الكائن البشري و ان يعرف نفسه على انه كائن اخر و هذا يمثل خطر على المجتمعات الاخرى التي ستقاومه و سيكون مجبرا على الاندماج مجددا و الرضوخ في النهاية لان البشر في طريقهم لتاسيس حضارة واحدة مشتركة و جامعة تكون على اساس احترام الاختلاف و اذا ما غذيت الصراعات اليوم او تاليب الراي العام في المجتمعات لرفض هذا الاصطفاء الحضاري فسوف يدخل البشر في حروب هم في غنى عنها و كذلك محاولة تسريعه ستؤدي لنفس النتائج لهذا فالعملية تحتاج لوقت لكي تحدث بالطريقة المناسبة حيث تستطيع كل المجتمعات تقديم ما يمثلها لهذه الحضارة البشرية الموحدة القادمة في منافسة شريفة تهدف الى الارتقاء بالكائن البشري
انور رحماني