كيفما كانت كلمة الله تُقرأ…
لتحميل الرواية إظغط هنا :رواية شمس تتبول واقفة
سقطت القلّة، تكسّرت، تهشّمت، تفتّت الى قطع صغيرة، حينها كانت أمّي تراوغ الطلق، كانت تحملني في بطنها وتتأهّب خروجي في أي لحظة، لم تكن تعلم أي ابتلاءِ ينتظرها، كانت تصرخ وتبتسم أحيانًا وهي تنظر لأبي الذي كان ينتظر ذكره الأوّل بعد ثلاث خيبات، ثلاث بنات، جرى صوب الباب ونادى على أختي زهرة التي كانت تلعب بجانبه وطلب منها أن تسرع الى القابلة لتأتي ومعها الجارات للقيام بما يجب في مثل هذه الحالات، عاد اليها وأسندها اليه ثمّ تمشّى بها الى سريرها وأحضر بعض الماء الساخن ووضعه أمامها وهو يشجّعها على الصمود.
قالت لي جدّتي أنّه كان خائفًا جدًا، وسعيدًا في نفس الوقت، خائفًا من أن تخطيء أمّي تصويب طلقتها هذه فأكون بنتا، شرفًا وعارًا يضاف الى بناته الأخريات فيحق في أبي القروي لقب “أب البنات”، وكان خائفًا أيضًا من أن أكون الذكر الذي وعد به الله نبيّه زكرياء بعد كِبَرٍ، فأذبح كما ذُبح يحيى، فراح يسبّح أبي ربّه لعلّه ينجيني ان كنت ذكرًا كما أنجى يونس من بطن الحوت، وأمّا وان كنت بنتا فليدر الله حبل المشيمة على رقبتي وليأخذني الى عليائه بعيدًا عنه، وكان سعيدًا أيضًا، سعيدًا لأنّ احتمال أن أكون ذكرًا كبيرُ جدًا، خصوصًا وانّه قد قام بكل ما يجب لأجل ذلك، دعى كثيرًا، صلّى كثيرًا، كتب حجابًا لدى عرّافة القرية وعلّقه في مقبرة الصالحين، كما أنّ أمّي توحّمت على المالح والحامض كما تقول أعراف الذكور، وانتفخ بطنها الى الأعلى كما يجب لكي لا أكون بنتًا، كما أنّ أبي منع الحلو والسكر عن البيت طيلة مدّة الحمل، حتّى أنّه سار يتوحّم مع أمّي مالحها وحامضها لعلّ وعسى يرضي ربّه فأولد وفي جعبتي ما يفضّله القريّون.
كانت أمّي تتعرّق، وكان أبي يتعرّق، وكانت الشمس تتعرّق، كل شيء كان يتعرّق تعبًا وارهاقًا وخوفًا ممّا قد يحاك لهم من صوف القدر، حتى حيطان البيت لم تسلم من عاصفة التعرّق، لم يغيّر دهانها منذ أربع سنوات ولعلّ سبوع هذا الذكر المحتمل القادم سيكون فرصة لترميم البيت، وأمّا كلبتنا المشوّهة التي أكل الدود بعضًا من وجهها فقد كانت تهزّ ذيلها وهي تنبح مرحبّة بسيّدها الجديد.
لم تتحمّل أمّي الألم، راحت تصرخ وهي تدعو الله أن أكون ذكرًا بطريقة هيستيرية: ” يا الله، ذكر يا الله، رجل يا الله، يا رب حقق أمنيتي الوحيدة وسأصلّي لك مدى الحياة، سأجعل البيت مسجدًا يا الله، ذكر يا الله، ولد يا الله، رجل يا الله..”.
دخلت القابلة والجارات دون قرع الباب ونادت القابلة على أمّي: ” أنا قادمة تحمّلي، على قدر ما يطول الألم على قدر ما يكون ذلك كافيًا لانجاب الذكر، لا تستسهلي حتى لا تنجبي بنتًا كالعادة”
جرت احدى الجارات الى أمّي وقالت لها: ” تشجّعي، بعد قليل ستصبحين أمًا لرجل وتذهب لعنة البنات بعيدا الى الجحيم”.
أخرجت القابلة والجارات أبي من الغرفة بشق الأنفس وقد رفض الخروج متحججًا بكونها زوجته وحلاله، فصرخت القابلة: ” ولكننا نساء أيضًا ولسنا نساءك”.
خرج أبي من الغرفة وجلس في “وسط الدار” و تأمّل السماء وهو يحاول أن يرشي الله وأن يغريه بذبح ثور كبير لأجله شكرًا له ان كان المولود ذكرًا، كان أبي يحادث السماء وكأنّه يحادث صديقا في مقهى، يرى وجه ذكره الأوّل بين الغيوم، يرى قضيبه وخصيتيه، ثمّ يتراءى له فيلم حياته في خيط رفيع في سماء مخياله، يرى ختانه، مدرسته، عمله، خطوبته، زواجه، وأحفاده الذكور منه، يرى فيه اسمه الذي سيحمله للأبد من بعده ليواصل نسله في الحياة.
أمّا أمّي فكانت تصارعني حينها، تحاول أحشاءها بعناد كبير أن تتفقّد أعضائي الحسّاسة لتعيد تشكيلها للمرّة الأخيرة فتقذفني ذكرًا الى الوجود، كانت تدفعني وتعيدني ثانية اليها من جديد، كانت تعبّر عن حيرتها اتجّاهي، لم تتشجّع على ولادتي، مزالت في شكوكها ومخاوفها، واقترب وجهها على الانقسام في شكل مهبل كبير حينما كان هو يأكل عقلها ويمضغه على مهله، لقد صارت بناتها الثلاث مجرمات في وعيها أثناء ولادتي، لا تريد لتلك الجرائم أن تتكرّر ثانية.
كانت القابلة تصرخ: “ادفعي، ادفعي بقوّتك ما هذا الدلع الزائد، أهكذا تلد النساء؟ ”
قالت احدى الجارات: ” بما أنّ الولادة صعبة هكذا فبالتأكيد ذكر، الرجال رأسهم خشن، لا يفعلون الّا ما يريدونه هم، هيّا تشجّعي لقد قاربت على ميلاد الرجل”
قالت جارة أخرى: ” هكذا كانت ولادتي لأبني أمين، عسيرة وموجعة، تشجّعي أختي عذابك بشارة جميلة، الذكر الذكر يا جارتي الذكر الذكر”
واصلت أمّي صراخها وقد بدت عروقها على وجهها وهي تحاول مرارًا وتكرارً دفعي خارجها، قالت القابلة عندما لامست رأسي: ” الحمد لله لقد ظهر رأسه، هيّا واصلي الدفع كي لا يختنق، انّي أشعر أنّه ذكر، ان كان ذكرًا ستدفعين لي أكثر وأكثر”
دفعتني أمّي، دفعتني بقوّة، إنزلقت من مهبلها كمخاط لزج، مكمّش الوجه، مجعّد الجلد، بشعًا، أبيضًا خاليًا من الحياة، تملأني خلاصاتها، مخضّب بالأحمر.
سكتت أمّي عن صراخها وانتظرت، حملتني القابلة في يدها مدّة طويلة ولم تفهم شيئًا، ما هذا الذي جذبته من أحشاءها، تأمّلتني والجارات بدهشة كبيرة، محاولة فهمي، فهم جنسي واستنتاجه، أذّنتُ صرختي الأولى حينها وبكيت وغطّتني القابلة في لحاف أزرق فاتح ووضعتني في صدر أمّي، وخرجت ومعها الجارات مسرعات دون أن يقلن شيئًا لأمّي.
وقف أبي عند الباب وسأل القابلة: ” هاه بشّريني، ذكر؟ ذكر؟”
ارتشفت القابلة ريقها مرّتين ثمّ قالت وهي تتنهد بين الكلمة والأخرى: ” ماذا تريدني أن أقول لك، ما رأيت في حياتي ما رأيته الآن”
ردّ الأب: ” هيّا أخبريني ولد أو بنت؟ ولد أو بنت؟ هيّا أخبريني”
أجابته القابلة وكأنّها تحاول أن تتخلّص من عبءِ ثقيل : ” لا ذكر ولا أنثى، لا ولد ولا بنت ”
ردّ أبي بصعوبة: ” اذن ماذا؟”
لم تجبه القابلة تنهدّت بقوّة ثمّ انصرفت وهي تقول: ” انّها لعنة وأصابتنا، ربّي يرحمنا ويغفر لنا، اللهم انّي اتوب لك من هذه الولادة، الله لا يبلي عباده..”
هرع أبي الى الغرفة وقد انتابه خوف شديد، تأمّلني في ذلك اللحاف الأزرق السمائي وأنا أتنعّم في صدر أمّي التي لم تحرّك ساكنًا لرؤيتي بعد أن أنهكها التعب، سألته بصوت مبحوح وضعيف: ” أه يا رَجُلي طمنّي ذكر،ذكر؟”، حملق فيها بكلتا عينيه، ثم انهمر على جثّتي الصغيرة، أزال اللحاف عنّي تأمّل عضوي مدّة زمنية وهو يحاول فهمه، لقد صُدم، وقع على الأرض جالسًا دون ارادته ووغطّى فمه بكفّ يده وراح يبكي.
سألته أمّي ثانية: ” أنت تبكي فرحًا أليس كذلك؟ ذكر صحيح؟ ذكر؟”
لم يجبها، التزم الصمت، سكوته كان يقول كل شيء وكان لا يقول شيء أيضًا، نهض على فوره وهرب من الغرفة وكأنّه لا يريد العودة الى حياة، فتح باب البيت بقوّة وانصرف وهو يصرخ: ” لمَ أنا يا الله، لمَ أنا، لمَ ابني أنا”.
جاءت أخواتي الثلاث الى الغرفة ولم يأبهن لعضوي، فرحن بي ووضعنني في جانب أمّي وقد سألتهن ثانية: ” اذن هو ذكر يا بناتي” أجبنها بصوت واحد: “ربّما”.
كانت ربّما تلك تلخّص كل شيء، تلخّص جهلهنّ الجنسي، وتلخّص عجزهنّ عن فهم هذه الحكمة الالاهية الكبيرة، هذه المعجزة المشوّهة التي تحدث أمامهن، وكانت أمّي حينها تتأمّلهن بابتسامة حقودة يملأها الشك، لم تفهم ما حدث للتوّ معها، ولم تحمل عناء هز رقبتها بعض الشيء لتدني بصرها لتلك المنطقة الحسّاسة ولتقطع الشكّ باليقين لتفهم جنسي بنفسها دون حاجتها للسؤال.
وربّما كانت ربّما أفضل لها من جحيم اليقين، من شيطانة قد تضع مولودًا لها باستعمال مهبلها، أو من مزحة ربّانية تتجذّر في حياتها لتحوّلها لمسخرة كافرة، لا شيء بامكانه أن يشرح “ربّما” أكثر من “ربّما” نفسها، أكثر من حرف الشكّ هذا، ليقول كل شيء دون أن يفهم شيء، ربّما ذكر، ربّما أنثى، ومن يعلم، لعلي كلاهما ومعًا..
وقبل أن تتدفّق روحي في هذا الجسد المادي والمشوّه، كانت تحوم في بيتنا كل يوم، تشاهد ثيماته العصيّة على الفهم، كنت أشاهد أبي وهو يجامع أمّي غفلةً وهي نائمة لكي يكون قرار الجماع له وحده، فيشعر برجولته من خلال ضعفها وألمها، وكنت أشاهد أخواتي البنات وهنّ يصلين لله أن يرزق أباهم المولود الذكر الذي يريده بعد أن اتضحت قيمتهن الدنيّة جيّدًا في نظره وفهمن أنهنّ شبيهات مواليد ليس الّا، ومجرّد محاولات ولادة بائسة، وعليهن انتظار المولود الحقيقي الأوّل، الذكر الأوّل، ليعشن ما تبقّى من حياتهن خادمات تحت قدميه، وكنت أشاهد جدّتي وهي تسقي حشائش القصبر والنعناع وكرمة العنب التي زرعتها وسط الدار منذ أوّل يوم لها فيه وهي عروسة صغيرة، وكنت أشاهد حيواناتنا وهي تعيش في هدوء وانسجام تام مع السكون العام من حولها وكأنّها لا تأبه لهذا الترتيب البيولوجي العشوائي الذي أحدثه الانسان حولها وهو يتسيّد عليها، وكنت أشاهد غفوة هذه القرية التائهة في هذا الجو الكئيب من السطحية والنعرة الذكورية والتديّن الزائف، كنت ألمحها جيّدا من السماء، ألمح الوادي الشبه جاف الذي يقطعها وألمح أمامه الفتية الصغار في ملابسهم الرثّة وهم يخترعون كل يوم لعبة جديدة تقيهم سكون هذه القرية المرّ.
كانت روحي تحلّق في كل مكان، وكان حينها ربّي يفكّر مليًا في صلوات أمّي أناء الليل وأطراف النهار، كان يفكّر في هذه الروح التائهة ليجعلها مصيرًا مشوّهًا، وقدرًا لم يكتبه في كنّاشته، وفكّر، فكّر مليًا، ثمّ لم يتأكد واحتار،.شكّ، وانتابه الكسل، ثمّ كنت أنا، صنيع يده التي أمزجت من القالبين طينًا واحدًا.
تردّد كثيرًا قبل خلقي، لم يكن قراره سهلًا، شكّ في جسدي ورسمه بريشة خنيثة، اقترب من تحقيق أمنية أبي الوحيدة ثم أراد أن يضفي عليها بعض التشويق، كان بإمكانه أن يجعلني صلاة ذكرية مستجابة أو خيبة أنثوية مُعابة دون حاجته لأن يجعلهما يندمجان في جسدي الهشّ والضعيف، كان بامكانه أن يقول في خلقي كن فأكون ولكنّه أخطأ التصويب هذه المرّة فكنت تقريبًا ما أرادني أن أكونه وما لم يكن يريدني أن أكونه.
لم أفهم لِمَ تردّد الله قبل أن يقرّر جنسي، لِمَ انتابته تلك الحيرة على حين غرّة قبل أن يعلم ان كنت ذكرًا أو أنثى؟ لمَ انزلقت كومة الطين من يده لتشكّلها الصدفة كما تشاء؟ لمَ لم يقرّر فقط ويمنحني عضوًا واحدًا بدل اثنين؟ لمَ أصرّ أن أكون كلّي واحد الّا ذلك الجزء منّي؟ هل أرادني أن أكون مسخًا؟ وهل هي حكمة المسخ؟
كان الله يمزح فقط، ولكنّها كانت مزحة ثقيلة، ثقيلة كالحجرة السوداء التي أنبتت شجرةً عقيمة، ثقيلة كالهالات السوداء التي تلطّخ جفناي المتورمتان من الكآبة، ثقيلة كوجه أبي الشرس الذي لا تشرق عليه الشمس، ثقيلة كهذه الضوضاء المتألّمة في السكون، ثقيلة كحرارة هذه الشمس التي بخّرت العقول من جماجمها.
كانت أمّي تتأمّل عيناي وهما يتأمّلانها باشتهاء، وكان ثغري الصغير يبحث عن أثداءِ لينهل من الحليب ما يسدّ رمق ذلك السبات الطويل الذي قضيته في أحشاءها، تمرّغ خيالها في تقاسيم وجهي الصغير والمكمّش، وراحت ترسم لي حياةً فيه، ترسم ليلة الحنّاء التي ستزفّني فيها عريسًا لأفضّ بكارة إحداهن، ترى في وجنتاي وجه أبيها الفلّاح وسمرة جلده، لقد كنت أمثّل لأمّي قبيل أن تعرفني على حقيقتي الممسوخة : عودة المسيح، وشربة الكوثر من يد الرسول، و قدوم المهدي المنتظر، رسمت عنّي في ذهنها كل ما هو جميل، ولم تفكّر أبدًا في سخرية الله منها في جسدي.
قامت وأسندت ظهرها على قائمة السرير، ومدّت قدماها على امتداده، وضعتني فوقهما وهي تتأمّلني بابتسامة عابرة، تنتظر فتح هذه الهديّة المغلّفة، كنز الله المبجّل بالرحيق المختوم، تنهدّت وهي سعيدة ومطمئنّة، ألقت يداها التعبتان على لحافي لترى بعينيها ما انتظرته طيلة سنوات، أزالت الجانب الأيسر من الغلاف بيد والجانب الأيمن باليد الأخرى، ثمّ تأمّلت عضوي بدهشةكبيرة، لم تفهم ما الذي وقعت عيناها فيه، كان قضيب صغير يتدلّى فوق فصّي مهبل مريض، ازدواجية عضوية ومدمجة بعناية ساخرة، لم يكن قضيبًا ولا مهبلًا بل كان كلاهما معًا، ولم يكنهما معًا، كان شيئًا غريبًا تكوّن في أحشاءها، شيطان مارد شوّه عضو ابنها في آخر لحظة، أو سحر أكلته في وليمة ما.
بقيت على حالها مدّة طويلة وهي تتأمّل ذلك التشوّه الفخم، قضيب يتدلّى فوق مهبل، مهبل باسط جناحيه تحت قضيب، لا خصيتين باديتين، لا مهبل واضح، ولكن مع ذلك القضيب يبدو بارزًا بما يوحي بأنّه قضيب ولكنّه ليس هو، تأمّلتني بدهشة وبحقد، بتذمّر وبصدمة، تشكّل فاهها دائريًا وكأنّها كانت تريد ابتلاعي كما تفعل القطط عادة مع أبناءها المنبوذين، تجلّى الشيطان في محيّاها البائس واحمرّ وجهها وقارب على الانفجار، كانت تحاول الصراخ ولكنّ شيئًا ما كان يكتمه بالداخل، قاومت انقباضات روحها لكي لا تتدفّق منها الى العالم الآخر، وعندما فقدت الأمل، فقدت ركائز وعيها، حملتني عاطفتها دون ادراكها ووضعتني في صدرها ونهلت منها بعض الحليب.
رضعت ثديها الأيسر، رضعته باشتهاء، رضعت منها مفاهيم هذه القرية العفنة وبؤسها الفكري، رضعت منها شيطانها القرين الذي وسوس لها هذا الذنب الذي قذفته، رضعت منها حبّها لي وكرهها لي، ورضعت منها لعنة الله وكنت أستمع لصوته وهو يقهقه ضحكًا بداخل ثديها نِكالًا بها وبجسدي، وأمّا ثديها فقد أراد أن يتخلّص منّي بأي طريقةكانت، كنت أمصّه بصعوبة وهو يدفعني الى الوراء، يحاول تجنّب هذه اللعنة الشياطنية التي تجلّت في جسدي، وحينما كنت أرضع أمّي كانت هي تبكي بصمت، وكانت دموعها تقطر على رأسي كحبّات البرد، تغسلني من ذنب لم ارتكبه، من ذنب قد ارتكبني، تغسلني من قدر الله الذي كتبني، ومن أسحار الشياطين التي مسختني، تغسل هذا الطمث البشري وهذه القذارة الطبيعيّة، تبكي هذا المسخ الذي أنبتته من أحشاءها كوردة المياه القذرة.
كانت تفكّر وكان خيالها يحرق كل شيء، يحرقها ويحرقني، يخلق لي جحيمًا قبل جحيم الآخرة، هناك مجال لكي يصير هذا الخنيث لعبة في يد الرجال، أن يصير معشوقهم، أن يصير عاهرة أو راقصة، أن يصير كلّ ما حرّم الله على عباده، وهناك قدر لعين سيحتم عليه أن يكون ذكرًا مشوّهًا الى آخر لحظة في حياته، كيف تجرّأ الله أن يكتب هذا الخطّ المعوج بقلمه؟ أن يخطّ بكل وقاحة هذا القدر السقيم، ماذا دهاه؟ ما الذي خطّط له عندما جعل في هذا الشيء روحًا تدبّ بداخله؟
كان صوته الضاحك يواصل في تجاويفها، يملأ الفجوات بين أعضائها كفرًا والحادًا، سحبتني أمّي من ثديها فاختفى صوته المتخاذل، تأمّلت وجهي بصعوبة وكأنها تتأمّل كسوف الشمس وكانت رموشها تلتصق بعضها ببعض من كثرة البكاء، وسألتني وبصوتها شهقة الموت المظطربة: ” ماذا أنت؟..
“ماذا أنا يا أمّي؟ كيف أسمّيني؟ شيء ما انزلق من يد الله قبل أن يتم خلقه، كمشة تراب فاسد، طين لم يبلل بالحجم الكافي، ماء قذر، قدر خاطيء، لا شكّ يا أمّي أنّي لا شيء، لا شيء الّا خنثى، الّا خنيث، الّا مخنّث، الّا تشوّه بشع وسط قرية أجمل ما فيها أبشع من كلّ ما فيها، أنا ذكر وأنثى، ربّ وشيطان، بعض منك وبعض من أبي، أنا الأنثى التي لم ترغبيِ يومًا بها والذكر الذي لطالما حلمتي به، أنا الحلم والكابوس، النهار والليل، انا الذكر الأنثى، الأنثى الذكر، وكلاهما معًا، الرجل المتحكّم والمرأة المقهورة، أنا هفوة الله في خلقه، وخطيئته اذ سهى، وعندما صوّرني الباريء في رحمك رمشت عيناه فكنت أنا كما أنا”.
“ولمَ نظرة الحزن في عينيك يا أمّي؟ لمَ نظرة الحقد البريئة التي تحرقني فأشفق عليك منّي؟ لمَ نظرة المأساة تلك التي تقتلني فتحيّيني؟”
قلت لها في احساسها الداخلي وخيط رقيق كان يجمعنا بعد ان انقطع الحبل السرّي: “أمّي أنا خنثى[1]“.
سمعت ذلك، سمعته وفهمته جيّدًا ” لقد وهبتني ربِّي خنثى”، وحينها رمتني على السرير وكأنّها قد ألقتني من أعلى جرفٍ هاوٍ، وراحت تلطم على وجهها وتصرخ مبحوحةً وقد لبسها الشيطان: ” لعنة الله عليك يا رب، لعنة الله عليك يا رب”، ردّدت ذلك مرارًا وتكرارًا ثمّ تفطّنت لذنبها الكبير وراحت تستغفر كفرها: ” أستغفر الله، أستغفر لله”، ثمّ راحت تخرج من رحمة الله مردّدةً: “ما حكمتك في هذا يا الله؟ هل جُننت يا الله؟”
بدأ الايمان ينتحر فيها شيئًا فشيئًا، خرج الله منها كما يخرج المسّ، كان شكل عضوي البشع يحرقه كما تحرق كلماته الشياطين، وراح ينسل منها كما تفعل الروح في النازعات غرقًا.
أخافني وحش أمّي وهو يستلقي في صراخها الحيواني المشتعل، فرحت أصرخ وأبكي أنا أيضًا، أبكي لأجل شيء لا أعرفه، لأجل شيء قالته لي ملائكة الرحمن في رحم أمّي قبل أن أولد وتظاهرت أنّي نسيته ولم أفعل، وشوش ملاك في أذني: ” ستكون حياتك ضنكة” ثمّ ضحك وقال آخر: “سنتسلّى كثيرًا”، ثمّ مضيت الى هذا العالم الأسود، حملتني القابلة في يدها واستغفرت الله على ما فعلت وفرّ الجميع من حولي وسرت مُذّاك اليوم “منبوذًا”.
قدّر لي الله أن أكون خنثى وما شاء فعل، لمَ اليوم الكل يكفر به، هل لأنّ عضوي المشوّة قد كسر القاعدة؟ كسر الطبقية الجنسيّة التي يعيشها القرويّون؟ أم لأنّه قد انتهك تلك الحدود الوهميّة التي رسمتها ذهنياتهم بين المرأة والرجل لأصير همزة الوصل بين الجنسين؟ حسنًا يا قرية البؤس لقد أوحى الله لي هذا العضو المشوّه فلماذا تريدون تحريف كلمته وأمره الذي نطق به من فوق سبع سموات؟.
ساد الحزن البيت، ورُسِمَ الشيطان في حيطانه، لم تكترث أخواتي البنات لجنسي كنّ فرحات بأخيهن الأخت هذا أو أختهن الأخ، ولم يكن منهم سوى محبّتي وملاعبتي ومبادلتي بعض العواطف ولكنّ أمّي قد سارت تحوم فوق جثّتي كنسر جارح تفكّر في قتلي وفي ارضاعي في نفس الوقت، كانت غريزتها تفرض عليها أن تقدّم لي الحدّ الادنى من العناية وهي تتشقلب بداخل نفسها باحثة عن سكّين حاد لتقطع الحبل السرّي الذي يجمعها مع الله فتقتلني، كانت تحاول أن تكفر به لتنتقم منه لأجلي، أو لتعيد خلقي بيدها فتمنحني قضيبًا سليمًا يكفي شراهة هذه القرية الذكورية للقضبان.
كانت تقف قُبالتي، تتأمّلني لدقائق، لساعات طويلة، لفترات زمنية متفاوتة، ثمّ تنقضّ على جسدي، تبتسم، تلهو، ثمّ تتذكّر عضوي فتتفحّصه ثمّ تنفجر باكيةً وتنصرف الى عزلتها، تندب، تلطم، تولول، تقاضي الله في محكمة شيّدتها في عقلها الباطن، تؤنّب الملائكة والشياطين، لقد قاربت على الجنون.
أمّا أبي فقد فرّ من البيت لثلاثة أيّام ولم يعرف أحد أين ذهب، خرج من القرية وبقي بالقرب من أحد كهوف جبالها، يحاول أن يصبو الى الله فيسأله وجهًا لوجه ” لمَ شوّهت ابني يا رب؟ لمَ خذلتنا؟ “، كان ينتظر ألواحًا ما تنزل عليه مع قبسٍ من نار، ولكن لم يحدث شيء البتة، لم ترد السماء على أسئلته، لم يجبه الله، لم تنشق الأرض ولم تبتلعه، وعندما نشفت دموعه عاد في ليلة ريح عاصف،عاد خلسة في جنح الليل المظلم، لم يطرق على الباب، دخل الى غرفة نومه ووجد أمّي مستلقية على جنبها أمامي باكيةً، انتبهت له ولكنّها لم تفعل شيئًا ولم تحرّك ساكنًا، استلقى أمامها وعانقها بقوّة، وضع وجهه على وجهها وراح يبكي، ودامت تلك الليلة طويلًا، كانت ثوانيها الأطول في حياتهما معًا، كانت دموعهما ساعةً رملية، تنثر الثواني على السرير ثانيةً ثانية، بكاء صامت، طويل، أنين خافت، مرير، نبضات قلبهما نسيت ايقاعها، تنفسهما لم يعد ذاته التنفس، والريح كانت تعزف في القصب خلف نافذة البيت لحن الحزن الأبدي.
” ألم تكفي صلواتنا لك ربّي؟ ألم تكفي زكاتنا والصدقات التي بذرّنها لأجلك هنا وهناك؟ ألم تكفك القرابين التي ذبحناها لأجلك، والأضحيات التي قسّمناها على المساكين؟ ألم تسمع صوتنا و نحن نرتّل القرآن لك أناء الليل وأطراف النهار كما كنت تطلب منّا دائمًا؟ أ لم تكفك دموعنا التي سكبنها في كؤوس الذلّ كلّما قرعنا معك نخب صلواتنا وتذرّعاتنا وكلّ سجود كنّا ننحنيه وكلّ ركوع، أ لم يكفك كلّ هذا؟”
سأل أبي الله: ” هل تتذكّر ربّي وجهي الدامع وأنا أقرأ سورة مريم بقلب خاشع، في تلك الليلة السوداء لم أشعل ربّي شمعة فقد كنت أنت الشمعة، لم أشرب ماءً فقد كنت أنت الماء، لقد قرأتها عشرات المرّات طوال الليل، ودعوتك ربّي بقلبٍ صادق، قلت لك أنّي أريد ذكرًا، ذكرًا واحدًا يا ربّي، وقد استمعت لي، لقد كنت قريبًا منّي وكنت أشعر بك، لقد شعرت بيدك وهي تلامس كتفي، شعرت بوخزات ابرية في جلدي، وتملكّتني قشعريرة الإيمان، لقد تحرّك كل جماد في البيت، ونزلت الملائكة علينا كالحمام، اهتزّ قرميد الدار وابتسمت لي وفهمت أنّك كنت قريب فاستجبت دعوة الداعي اذ دعوتك، ربّي لمَ سخرت منّي اذن؟ لمَ كانت يدك غليلة عندما جئت لتمنحني ما قد منحت الجميع بكرم باذخ؟ لمَ لمْ تصوّره ذكرًا كما فعلت مع كل أولائك الذكور؟ أجبني يا الله، لمَ تلتزم الصمت؟ ألست أنت من اقترف هذا الذنب؟ أجبني لعلّك تطفئ هذه الجمرة العنيدة التي تأبى الضمور، لأجد لك مكانًا جديدًا عوضها، لمَ أشعلت ربّي هذا الحريق بداخلنا؟ لمَ خلقت هذا المسخ فحرقت كل تلك السنوات التي قضيتها وأنا أتعبّدك؟”
لم يجبه الله، واصل تحديقه بهذه التراجيدية المأساويّة التي خطّها بيده وكأنّ شيئًا لم يكن، وكأنّه ضيف قد مرّ على رحِم أمّي كعابر سبيل ليس الّا، وواصل أبّي احتراقه الأبدي، وواصلت أمّي أمنيتها المجنونة في أن يتحوّل عضوي المشوّه الى قضيب.
دخلت القابلة الى كل بيت ومعها الجارات، وسار خبر الطفل الممسوخ حديث كلّ القرية، لم يعد الأمر سرًا مع أنّ الجميع كانوا يتلقفونه كسرٍّ عويص، ترى الجموع بين الأزقّة وفي المقهى، بين لاعبي النرد وبين حواشي المزارع، بين أشجار التين وفي البيوت، يتحدّثون عن شيء واحد، عن الطفل الذي وُلِد بعضوين، عن طفل لا ولدٌ هو ولا بنت، وكانت تمرّ المعلومة بسرعة، وكان كل قروي اذا أخبر قرويًا آخر تراه يضع يده على أذنه ويهمس فيها بنشوة، ويشدّد عليه أن يبقى الأمر سرًا بينهما، ومن فمٍ لأذنٍ الى أن علمت القرية قاطبة أمر هذا المسخ الذي أكونه، وغدوت على لسان الجميع، أضحوكة، وشماتةً، وتسلية.
لم تزر الطيور بيتنا مجدّدًا، غادرته جماعة، سِربًا يتلو السِرب، وحتى الحمام الذي كان يطعمه أبي من فضلات خبزنا لم يعد يقوى على الوقوف أمام شرارة البؤس والحزن التي كانت تذرفها عيناه، ومع ذلك كان يحمل بعض الخبز ويفتته بيديه ويلقيه حوله دون جدوى اذ يبدو أنّ الحمام قد تنكّر له ويبدو أنّه لن يعود أبدًا لهذه الساحة العدمية الحزينة.
سئم أبي الحياة وقد سئمته، وبكى في صدر أمّي طويلًا، أمّي التي فقدت ملامحها من البكاء، محت الدموع تلك الأشياء التي كانت تجعل وجهها يبدو وجهًا، ومع الوقت فقد وجهها قدرته على التعبير، كانت عيونها تغرورق دمعًا ثمّ تمتصهما مباشرةً، وهكذا الى أن أصبحت أمّي غصنًا يابسًا، أرضًا بورًا، حجرًا صلبًا، وفقدت كل ما قد يجعلها انسانًا يشعر ويحس.
أمّا أخواتي البنات فقد واصلن حياتهن بشكل عادي، لم يحدث شيء، طفل بريء أتى الى العالم، لم يحدث شيء، ملاك طاهر ولد في هذا العالم البائس، لم يحدث شيء، ربمّا كانت زلّة من يد الله، أو باقة ورد اتّسخت بطين الشتاء، لم يكن هناك ما يستوجب الحزن في نظرهن، واصلن اللهو وكأنّ لا شيء كان، وكانت النساء تسألهنّ كل مرّة نفس السؤال ” هل أنجبت ماما ولدًا أم بنتًا؟ “وكانت بعضهن ترسل بناتهن للعب معهن لكي تظفرن ببعض الأخبار عنّي وعن عضوي المشّوه ” هل شاهدتن عضوه، كيف شكله؟”، ” ماذا حدث مع أمّكن هل طلّقها أبوكن”.
وكانت أخواتي تخبرن أمّي كل شيء، تخبرنها عن كل تلك الأسئلة الهمجية التي كنّ يلتقطنها في باحة هذه القرية، وكانت أمّي توصيهن دائمًا بإجابة واحدة: ” أخي ذكر”، لقد كانت متأكّدة أنّ القابلة والجارات قد أفشين سرّها ولكنّها كانت تقاوم ذلك، تقاوم فضول القرية ونسوتها ببعض الشكّ، كان عضو هذا الرضيع المشوّه موضوع القرية الجديد ولن تمنحهم أمّي شرف رؤيته.
قالت القابلة لأختي زهرة وهي ترد على سؤال احدى الجارات لها بأنّي ذكر: ” من أين له شرف الذكورة؟ أخاك ملعون يا ابنتي اقتلوه وارتاحوا منه”، ثمّ ردّت على الجارة وهي تضحك قائلة: ” والله خنثى، خُنثى، لقد شاهدته بأمّ عيني التي لا أستطيع تكذيبها، وقطعت له حبل المشيمة بيدي ورميته الى صدر أمّه كقطعة اللحم الفاسد، انّه ابن الشيطان والعياذ بالله، اللهم عافنا من هذا الابتلاء”، ثمّ ضحكت الجارة وقالت لها: ” انّ الله لا يظلم عباده، الله يعطي حسب النية والقلب، لو وجد الله فيهم خيرًا كان قد نفعهم بذكرٍ ما فهو القادر على كل شيء، دعيهم يشبعون من هذا الخنثى المشوّه لعنة الله عليه”
فتحت أمّي حينها الباب بغضب بعد أن استمعت لكل شيء، ضحكت الجارة وأوصدت الباب، وأدارت القابلة رأسها وتنهدت وانصرفت قائلة: ” اللهم لا تحاسبنا بما فعل السُفهاء منّا يا رب العالمين”، نادت أمّي على زهرة وأمسكتها من يدها بقوّة وأدخلتها البيت وأوصدته، ثم افترشت الأرض وهي تتوسّد الباب، تعانق أختي زهرة وتبكي، تبكي بعد أن صارت حجرًا لا يقوى على البكاء، تبكي بعد أن صارت رُكامًا وحطامًا، بكت بعد أيّام من امتصاص تلك الدموع الحارة الى الداخل لتنفجر في وجهها كبركان، كفيضان، بكت اذ لم يكن بيدها أن تفعل شيئًا آخر الّا البكاء.
عانقت أختي زهرة أمّي ولم تسألها عن سبب بكاءها وتبعتها أخواتي الأخريات وتوسّدوا حضنها المشتعل، وبعد لحظات مسحت أمّي دموعها بطرف جبّتها البيضاء ونهضت وصرخت في وجه البنات: ” لا خروج من البيت بعد اليوم، ستلتزمون بهذه الجدران، هنا ستلعبون وستلهون” قالت اختي كرمة: ” ولكن أمّي من سيطعم الحمار؟” ردّت أمّي: ” دعيه يموت ” فقالت أختي سُلافة “ولكن يا أمّي… الحمار” ردّت أمّي بغضب: ” دعيه يموت قلت لك، هناك ما يكفي من الحمير في هذه القرية لسنا في حاجة لحيوان ما ليأخذ هذا المنصب”، بكت أختي زهرة وجرت نحو النافذة وفتحتها وتأمّلت حمارنا وتأمّلها وقالت: ” لن أتركك تموت يا حماري، لن أتركك تموت”
لمَ أرادت أمّي أن تقتل الحِمار؟ لقد كانت بداخلها ارادة كبيرة في ايذائه، في الانتقام منه، وما دخل عضوي المشوّه بذلك الحمار الناهق، هل لأنّه كان يشبه شيئًا ما كانت تريد قتله بداخلها، شيئًا ما كانت تراه سببًا في هذه النكبة التي تعيشها الآن، كان حمار كبير يجترّها من الداخل، يلتهم وعيها ويبصقه في شكل لا يشبهه، وكان الحمار ذاك الذكر الوحيد في عائلتنا الصغيرة بعد أبي ولعلّه سيكون الذكر الأخير.
حُبست البنات في البيت، زهرة، كرمة وسُلافة وحُبِست معهن أحلامهن، ألعابهن، حُبست معهن باحة القرية الفضولية التي لم تسلم أيَّهُنَّ من أسئلتها الصاخبة والفاجرة، ” كيف شكل عضوه؟”، “هل له قضيب أم مهبل؟”، “هل لقضيبه رأس واحد؟”،” كيف يتبوّل؟ من ثقب واحد أم من ثقبين؟”، ” هل له خصيتين؟ أم تراها خصية واحدة؟ أم لا خصية له؟”… وأسئلة أخرى، أسئلة مريضة، تافهة، ومؤلمة للغاية.
ولكنّ أخواتي لم يكن يهمهنّ من الأمر سوى الحمار، يا ترى كيف سيأكل؟ كيف سيشرب؟ كيف سيعيش؟ وقد تعوّدن على الاهتمام به، كان الحمار يستحوذ على البقعة الأهم من أفكارهن وقد رمين بقذارة القرية عرض الحائط.
جاء الامام بيتنا متعجبًا وسط ضوضاء القرية المتلهّفة للفضائح، خطواته الغاضبة كانت تخترق الأرض، وتحدث تموّجات غريبة على شكل السماء، فرّت الغيمة الوحيدة فوق بيتنا، وتسلّطت الشمس على فضاءها ولم يعد لنا مكان نلجأ اليه من حرّها سوى في خوفنا، كانت دقّات قلبي تستشعر قدومه، أستشعر ريح الله وسخريته فيه، وأنا رضيع تحادثه العفاريت وتخبره بكلّ شيء يجول من حوله، تخبرني عن أدق التفاصيل والمشاهد، من عراك الديكة خلف السياج الحديدي القصير الذي صنعه أبي حول مزرعته الصغيرة للبطّيخ الى سقوط النيازك الحارقة على الشياطين في سفوح الجبال.
صوت خطواته وهي تصطكّ مع التراب كانت تنبأ بزلزال ديني سيمحي شيئًا كان يهتزّ في بيتنا وهو يحاول الحياة، دقّ الامام على الباب ثلاث مرّات، دقّ خفيف فمتوسط فبقوةٍ بكلتا يديه، وكان عرمرم من رجال القرية يسيرون خلفه ومعهم أطفالهم يتشاجرون على الصف الأوّل ليكونوا أوّل من يعلم، أوّل من يعرف ويتأكد من خنوثتي ويشفي غليله نكايةً بجسدي المتعفّن، جاءوا من كلّ صوب يتبعون تخيّلاتهم السقيمة عن عضوي المشوّه، وليفخروا بذكورتهم، ليفرحوا بقضبانهم التي لم تكن الى حدّ الساعة الّا حدثًا عابرًا.
فتح أبي الباب وطالت رقابهم دفعة واحدة، وقال الامام ذي العمامة البيضاء واللحاف الأسود بعد أن قحّ بصوته ليستهل الكلام ويصلح ما كان به من بحّة: ” يا أخ الاسلام، جئتك اليوم لنتحادث حول أمر طفلكم وعن مزاعم القابلة عن تخنّثه، فأنت تعلم يا أخي أنّ هذه الأمور لا لعب فيها ولا عبث، فالطفل سيكبر ويتزوّج ويجب أن نعلم جنسه ونتأكّد منه اليوم قبل الغد” .
طالت رقاب القرويّين أكثر وتفتّحت عيونهم كشمس الظهيرة، وصرخوا بصوت واحد: ” صحيح، يجب أن نتأكّد من جنسه، لبدّ أن نعرف الحقيقة “.
احمرّ وجه أبي الأسمر وابتلع صوته من شدّة الخجل، فقال الامام ثانية: ” ما بُنيَ على باطل فهو باطل، ولا يمكننا أن نخدع القرية كاملة، على الناس أن تعرف الحقيقة”.
وكان اللُعَابُ حينها ينهمر من أفواه القروييّن من شدّة الجوع للفضيحة وصرخوا بصوت واحد” يجب أن نعرف الحقيقة”.
لم يقل أبي شيئًا حينها، ما نبس بكلمة،ما تفوّه بشيء، رُبِطَ لسانه واحمرّت عيونه واغرورقت دمعًا، ارتشف ريقه وفتح الباب للإمام فحاولت عيون القرويين اتباعهما الى الداخل ولكنّ أبي أوصد الباب في وجوههم التي أكلها الصدأ وانزلقت على لوح الباب كحديد منصهر.
تدحرج الامام في بيتنا كما تفعل الحشرات المتكوّرة، وكان يشتمّ الشيطان في ربوعه، كان أنفه يبحث عنّي ككلب أجربٍ شره، يُشَمْشِمُ يمينًا ويسارًا، سَعُل أبي لتختفي أمّي بين الظلال، ودخل الامام الى غرفتي، تمدّدت عضلات وجهه وتذوّق وجهي الحامض بعينيه، اقترب من جثّتي الحيّة، رمى يده الى اللحاف الذي كان يغطّيني ثمّ أمر أبي بصوت الفضول وبحّته: ” عرّي عن عضوه “.
تردّد أبي قبل ذلك لكن من ذا الذي يستطيع أن يقول لا في وجه الامام؟، فطلب الامام ذلك منه مجدّدًا رافعًا حاجبه الأيسر: “هيّا عرّه، عرّه، عرّه…” ولم يسكت واصل بصوته الصخب: ” عرّه، عرّه، عرّه، عرّه، عرّه ….”، لقد أصابته لعنة التعريّة، وأصبح مهووسًا بهذا اللفظ، وبقي يردّده على مسامع أبي، يردّده بطريقة هيستيرية: ” هيّا عرّه، عرّه، عرّه..”.
انهمرت دموع أبي على خديه حينها، ورمى بيديه ليخرج عضوي المزدوج الى الضوء، اقترب الامام أكثر، اقترب وهو يردّد بصوت خافت جدًا: ” عرّه، عرّه.. عرّه…..عرّه”، وضع عينيه على عضوي، تأمّله مدّة زمنية واصفرّت شفتاه، أشار بإصبعه اليه وهو يحاول لمسه، وإذْ قَرُبَ لذلك حتّى رفعه في السماء مردّدًا: ” أشهد أنّ لا اله الّا الله وأشهد أن محمّدًا رسول الله”، ثمّ عاد وتأمّله ثانيةً، تأمّله كثيرَا وهو يردّد بصوت خافت: ” لُطفك يا رب، لُطفك يا رب”، وفي لحظة من السكون الحاد صرخ الامام بأعلى صوته: ” وخلقناكم من ذكرِ وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا انّ أكرمكم عند الله أتقاكم…”، تملّك أبي الذعر، لقد خاف من كلام الله، من هذه الآية القرآنية ومن صراخ الإمام، ثمّ راح الامام يردّد: ” وخلقناكم من ذكر وأنثى… وخلقناكم من ذكرِ وأنثى… وخلقناكم من ذكرِ وأنثى”، سأله أبي متلعثمًا: ” ما معنى هذا؟، أجابه الامام بحزم: ” أ لم تفهم بعد؟ أستغفر الله، لم يخلق الله هذا، الله لم يخلق الّا الذكر والأنثى، لم يذكر الله الّا هذين الجنسين في القرآن، لو كان جنس ابنك مذكورًا في القرآن لعرفنا أنّه هو من خلقه، ولكن…”، فقاطعه أبي خائفًا ومتعجبًا: ” من خلقه اذن ان لم يكن الله؟ من خلقه؟” ردّ عليه الامام متساءلًا: ” هل توضّأت قبل أن تجامع زوجتك”، فردّ أبي: “لا”،سأله الامام ثانية: ” هل قرأت آية الكرسي قبل ذلك” فردّ أبي: ” لا”، فسأله الامام مرّة أخرى: “هل صليت ركعتين قبل أن تجامعها؟، هل أغلقت النافذة؟ هل أتيتها من حيث أمرك الله فقط؟” فأجاب أبي: “لا”، فسأله الامام آخر مرّة: “طيّب، هل قرأت دعاء نكاح المرأة وركوب الدابة على الأقل”، فردّ أبي وهو في قمّة الفزع: “لا، لا، لم أفعل”، فتنهدّ الامام ورفع يداه الى السماء ثمّ ضرب على فخذيه بشدّة وقال: ” لقد خلقه الشيطان اذن، لقد خلقه الشيطان”، فتح أبي فمّه كمستطيل طويل وهو في قمّة الدهشة ثمّ قال متلعثمًا: ” وهل بإمكان الشيطان أن يخلق؟”، ردّ الامام متنهّدًا وهو يتحسّر: ” تبارك الله أحسن الخالقين، فالله أحسنهم وليس الخالق الوحيد، وما من سيئة تصيبنا فمنّا أو من الشيطان، والله بحكمته خلق الأنثى والذكر لتعمّر الأرض، أمّا هذا الشيء الممسوخ هنا والذي أنجبته زوجتك فهو ثمرة خطيئة ارتكبتها، الشيطان فعل فعلته الشنيعة عندما مضيت الى جماع زوجتك ولم تذكر اسم الله عليها، انّ هذا الشيء المرمي على هذا السرير رجسٌ من عمل الشيطان”، بدأ وجه أبي يذوب خوفًا ودهشةً ثمّ سأل الامام: ” رجسٌ من عمل الشيطان؟”، فكَبُر حجم الامام وطغى في السماء ثمّ صرخ بأعلى صوته: ” رِجسٌ من عمل الشيطان فاجتنبوه”، ثمّ راح صدى صوته يتردّد في القرية: ” فاجتنبوه… فاجتنبوه… فاجتنبوه… فاجتنبوه…”.
صَغُرَ حجم أبي أمامه وراحت قدماه ترتعشان وهما تحاولان حمل هذه الجثّة المتورّمة، والتي عنّفها قدر الله بما يكفي ليجعلها مضغة مبلّلة، ثمّ سأل الامام مذعورًا: ” وما الحل اذن؟ ما الحل؟”، فردّد الامام مرّة أخرى وهو يهزّ رأسه يمينًا وشمالًا: ” فاجتنبوه… فاجتنبوه… فاجتنبوه..”، أصاب أبي غثيان ودوار وراح يتأمّل جدران البيت كاملةً وراحت عيونه تسقط منه الى عالم لا يعرف كيف يسمّيه، ثمّ عدّل الامام عبايته ولحافه الأسود الذي يغطيها وقال: ” على القرية أن تعلم خطيئتكم هذه وليتعلّموا منكم أن يذكروا اسم الله قبل الجماع فلا يخلق الشيطان في أرحام نسائهم مُسوخًا كالذي في يدكم، ولتكونوا عبرةً للمسلمين، انّ هذا الداء العويص الذي أنجبتم للحياة سيكون بلاءً كبيرًا على أهل القرية، سيكون فتنةً في الأرض، فهو يكسر الحائط الذي بناه الله بساعديه بين الرجل والمرأة، ويحرّض على البغاء، ومن يعرف لعلّه سيكون فاتحة الشيطان لأعمال قوم لوط والعياذ بالله، انّ ابنك أخي خطرٌ على أهالي القرية ويجب عليهم أن يعلموا بأمره ليأخذوا حذرهم منه”، ركع أبي أمام الامام وهو يقبّل يَدَيْهِ ورِجْلَيْه مترجيًا كتمان أمري، ولكنّ الامام أصرّ على قراره وتأمّلني لمرّة أخيرة ثمّ بَصَق على الأرض بالقرب منّي متعوّذًا: ” أعوذ بالله من هذا الكَرَبِ الرجيم”، وانصرف متعاليًا يجرّ أبي الذي تشبّث بقدمه محاولًا منعه افشاء هذا السر ولكن دون جدوى، مضى الامام الى أمره، وسقط أبي مغشيًا يبكي ويهذي: ” اليوم عرسي يا عباد الله، زغردي أمّي، زغردي، سيكون لي ابن ذكر يحمل اسمي”، جاءت أمّي وارتمت أمامه تبكي وأخذته في أحضانها تؤاسيه وهي في رجيم حزنها الشنيع،بقيت جدّتي تتأمّلهما أمام كرمة العنب وفتح الامام الباب وأوصدها بالعرض البطيء، وسُمِعَ الامام يردّد تلك الكلمة الملعونة حرفًا حرفًا: ” خُ…نْ…ثَ..ى”، وراح القرويّون يصرخون في ضوضاء صاخبة: “لعنة الله عليه”، “العياذ بالله”، “اللّهم عافنا”، “اللعنة على الشيطان”، واصل القرويّون نباحهم وقد تحوّلت رؤوسهم لرؤوس كلابٍ بفُكوكٍ طويلةٍ، وواصل أبي هذيانه: ” زغردي يا أمّي على ابنك لقد رزقه الله بالذكر”، نهضت جدّتي من كرمتها وراحت تحاول طمس أصوات القرويّين لتنقص على أبي ألمها وهي تزغرد مقاومةَ أحبالها الصوتيّة التالفة، وبعد مدّة طويلة قضاها القرويّون يشفون غليلهم وأمراضهم، راحوا ينصرفون أمام باب البيت فردًا يتلو الفرد تاركين نعالهم خلفهم في أماكنها، ليحجزوا أماكن وقوفهم للأبد أمام هذا البيت الذي تحوّل لمرجمٍ ولبؤرة فضول مشتعلة، كلّما أرادوا نبش أخباره ليملؤه قيأهم فيملأهم فضائحه.
لم يعد لهذا البيت أي حرمة أو حصن، بل تحوّل الى بيت مجلوه بلا أبواب، بلا نوافذ، تعلوه طبقة سميكة من وبر الشياطين وقد تدنّست جوانبه بشكل خبيث من سفيه كلمات القرويين وأحقرها، بدى بيتنا في لحظاته تلك كبيت زجاجي كلّ ما فيه بادٍ للأنظار، ومذُّ أن وطأت قدَمَا ذاك الامام المتعصّب أرضيته غدت أخبار بيتنا حقًّا مقدّسًا لأهالي القريّة المتجسّسين، فحين صرّح الامام أمامهم” يجب أن تعرف القرية الحقيقة ” بات كلّ ما قد يقع في البيت من حدث أو واقعة كان لزامًا على أهل القرية معرفته، وصار القرويّون ونسائهم كلّما أرادوا معرفة شئ ما عنّا يدقّون على باب البيت ويسألوننا دون حرج، وان حدث وأن رفضنا الاجابة يشتموننا ويوبّخوننا بأقبح العبارات، وهم يطالبون بحقهم في معرفة حقائق هذا البيت كلّما استطاعوا لذلك سبيلًا.
حاولت أخواتي انقاذ الحِمار، فدأبن على القفز من نافذة البيت كل ليلة، تلتقط كرمة بعض العشب والعلف والخضروات التالفة وتجمعها في كيس بلاستيكي وتملأ سُلافة دلوًا من ماء الحنفية الوحيدة في القرية وتفرك زهرة ضهر الحمار، ثمّ يوضع كل ذاك أمامه وحين يهمّ في النهيق، تفرّ الثلاث الى البيت خائفات، يتسلّقن النافذة ويعدن الى النوم.
أمّا أبي وأمّي فقد استنزفا قدرتهما على التحمّل، وضاقت بهما أرض الله بما ارتكبا من ذنب، وكانا قرنا الشيطان قد نما في رأس أمّي، ولم يعد شيء يمنعها من ارتكاب ذنب آخر أي كان، وباتت تتأمّلني بحقد كبير، لقد رأت في عضوي سبب اللعنة التي أصابتها ومعاناتها مع هذه القرية البائسة، وتحوّل وجهي الى كابوسها، ومع ذلك واصلت ارضاعي بغضب، وكأنّها ترفض ما تقوم به من فعل بحريّتها، كانت تقاوم طبيعتها محاولةً نأي ثديها عن الوصول الى ثغري بصعوبة ومع ذلك كان يصل وكنت أنهشه لأظفر ببعض القطرات الشحيحة من حليبها منه كي لا أموت جوعًا، كانت أمّي ترضعني رغمًا عنها وكأنّها لا تريدني أن أموت، مع أنّ كل ما فيها كان يصرخ في وجدانها وكنت أسمعه :” أتركيه يموت”.
واصل أبي هذيانه مع السيد رئيس السماء، كان يجادله كلّ ليلة، يسأله بغبطة وغضب، يبحث عن الشيطان في كلّ مكان في البيت لينتقم منه، يحرسني طوال الليل وهو يقرأ القرآن على عضوي التالف لكي يشفيه من الشيطان الذي يركبه، لعلّ الله ينزل عليه من لوح السماء المحفوظ ماءً فُجاجًا ويخرج يد ابليس منه فيتحوّل بكرمٍ بيَد الله الى قضيب.
صدّق أبي الامام ولم يكن يعلم أنّ الله قد أخذ يده بعيدًا عن جسدي، كان يحاول استشعارها هناك ليفرّ الشيطان الذي خلقني كما قال الامام الى الجحيم وليخرج عضوي الذكري كزهر الأقحوان من الفردوس السفلي الذي خبّأه الله، وكما صدّق أبي الامام صدّق القرويّون خطبته فيهم في يوم الجمعة الذي تلى فضيحتي: ” يا أيُّها المؤمنون، لقد خلقكم الله من ذكر وأنثى لتتكاثروا ولتعمّروا الأرض، وليتباهى الله بعباده فتكثر الصلاوات له ولنبيّه الكريم، انّ وجود الذكر والأنثى لهو حكمة الاهية أرادها الله في كل مخلوقاته وبما فيهم الانسان، وانّ الله جلّ جلاله لا يخطئ ولا يزل، فكيف له أن يخلق حيوانًا خسيسًا متموّهًا في جسد بشري وله عضوان، انّ هذا التشوّه الذي وُلد في قريتنا ليس من صنيع الله وعمله، بل هو من فعل الشيطان الرجيم، وهو بذلك يحاول أن يغرّنا وأن يجعل المخنّث فتنة في قريتنا تدكّ حصون الله بين الجنسين وتدخل عالم البشر في شر الشهوات فيمزج بين الثقلين فيغدو البشر شياطينًا هائمةً في المُعصيات، انّ الشيطان قد مدّ يده الى رحم المرأة فدنّسه بهذا المخلوق اللعين، وذلك أنّ زوجها غفر الله له قد جامعها دون وضوء ودون أن يقرأ عليها اسم الله وما تيسّر من القرآن فكانت بين يديه جيفة عفنة فكان عليه من الله ما يستحق، يا أيّها المؤمنون يجب عليكم اليوم أن تأخذوا حيطتكم فلا تقعون في خطيئة الرجل هذا فيفعل الشيطان في رحم نسائكم ما قد دنّسه في رحم امرأته فيصير أبنائكم مخنّثين والعياذ بالله” تملّك المؤمنون الفزع فصرخ فيهم الامام: ” لا تقربوا نسائكم الّا وأنتم على طهارة، واقرؤوا ما تيسّر من القرآن على أرحامهم ليفرّ الشيطان منها، فما اجتمع رجلٌ وامرأة الّا كان الشيطان ثالثهما، وطيعوا الله والرسول وأولي الأمر منكم، ومن يجامع زوجته بنيّة الانجاب عليه أن يأخذ البركة منّي أوّلًا لعلّ الله يُبعد عنه لعنة الشيطان”…
ومنذ تلك الخطبة صار القرويّون كلّما ماضوا الى جماع نسائهم يتوضؤون ويصلّون ويعطون البركة من أموالهم وهدياهم للإمام، وأصبح كلّ رجل قبل أن يولج عضوه في زوجته، يفتح مهبلها ويقرأ بداخله المعوذتين وما تيسّر من كتاب الله، وتحوّل هذا التصرّف الى عادة وتقليد لا يمكن لأحد أن يتخلّص منه، واكتسب من القداسة ما يكفيه ليغدو فرضًا بقوّة الامام وسلطته.
أنا الخنثى والشيطان الذي خلقني، اخواتي وحمارهم الناهق وأمّي التي كرهت مهبلها، وأبي، أبي الذي كره ربّه الذي استعبده بالكامل وجدّتي التي بحّ صوتها بشكل رهيب ولم تعد كلماتها تفهم ما تريد قوله، أنا كل شيء، وقد مددت أعصابي في كل شيء لأشعر بكل شيء، لأشعر بعذاب النساء، وقهر الرجال، لأفهم عنجهية الامام وسلطته، ولأقفز على كل هذا وذاك لأجل أن أكون أنا، أنا.
* * *
حثّ رجال القرية ومعهم الامام أبي على رميّي الى الذئاب لتأكلني، وهم يعدونه بأنّهم سيسترون جريمته ان فعل ذلك، وعليه قبل ذلك أن لا يجرّدني بالأحوال المدنية أن لا يعطيني اسمًا حتّى لا يعرف أحد بجريمة قتلي، استمع لهم حتّى غدى صوتهم يتكرّر بتجاويفه الداخلية كالصدى: “أقتله، أرمه للذئاب، سنكتم هذا السر…”، شاور أبي زوجته حيال الأمر، تشاورا طويلًا:
أبي: “يجب علينا رميه لكي نمحي هذا الذنب الذي اقترفناه ونرتاح..”
أمّي:” ماذا لو أراد الله أن يغيّر عضوه؟ أن يعطيه قضيبًا كباقي الرجال”.
أبي: “لا أظن أنّه سيفعل هذا، متى غيّر الله رأيه؟، الله مثل أبي رحمه الله، عندما يقرّر شيئًا ما لا يعود أبدًا أدراجه”.
أمّي: “أششت، صه، أخفض صوتك سيسمعنا الله”.
أبي: “وان فعل، فلينقذه، ان اراده أن يعيش سينقذه بالتأكيد أمّا أن أراده أن يموت فسيتركه لذلك، هكذا قال لي الامام، الحياة هي ما كتبه الله لنا، فان كتب له الحياة فسيعيش ولو رميناه وان كُتب له الموت فسيموت سواء رميناه أو لم نرمه”.
أمّي: اذن لمَ لا نتركه معنا و ان شاء الله سيقتله؟.
أبي: “يا جحشة، ماذا لديك في رأسك، تبن؟ حجر؟، ان لم نرمه فانّ الله أبدًا لن يقرّر، الله يقرّر في اللحظات الحاسمة فقط”.
أمّي: ” أنظر يا زوجي العزيز، لقد اكتفيت حزنًا ولعنة بسبب هذا الذنب الذي اقترفناه، هذا المسخ الذي أنجبناه، لقد بت أتحاشى رؤية مهبلي بسببه، لقد بت احتقر نفسي وكل ما فيها، ولكن، لا أعرف كيف أسمّي ذلك، ولكنّي أحبّه يا زوجي العزيز، أحبّه ولا أعرف لمَ، وفي كلّ مرّة يضع فيها فمه الصغير على ثدي أشعر بالتقزز وبالحب أيضًا، لا أدري ان كان بامكاني أن أفعل هذا”.
أبي: ” هذا ما أشعر به أيضًا ولكنّ الامام قد أخبرني أنّ مشاعر المحبّة التي نكنّها لهذا المسخ هي وسوسة شيطان ليس الّا لأنّه يريد أنّ يحافظ على شِركه في القرية فيوقع فيها المؤمنين”.
نظرت له أمّي نظرة استغراب: “وهل يوسوس الشيطان بالمحبّة؟”
ردّ أبي: “وقد يوسوس بالحياة أيضًا، هكذا هو الشيطان دائمًا ما يزورنا وهو يتنكّر في لباس جميل، وحده الامام من يعرف طريقة تفكيره، وحده من يفهمه، لقد وهبه الله قدرة عجيبة في تقصّي خطوات الشيطان، الامام لا يدعو الّا للفضيلة، فان قال لنا القوا ابنكم للذئب فهو بالتأكيد لا يدفعنا الى فعلٍ شرّير بل هو أدرى بما هو خيرٌ لنا عند الله”.
تأمّلتني أمّي بحزن ثمّ شاهدت وجهها يتغيّر رويدًا رويدًا الى ذئب وسألت أبي للمرّة الأخيرة: “وماذا ان رميناه وكان ذلك عصيانًا لله؟”.
ردّ أبي: “أبدًا، الله يتكلّم على لسان امامه، وهو الذي يقدّر له أن يقول ما يريده أن يقول، والله يختبر صبرنا على قتله، هل تتذكّرين قصّة ابراهيم وابنه اسماعيل، لقد أمره الله بذبحه فهمّ بذبحه لولا أن أنجده الله”.
فسألته أمّي: “ماذا ان رميناه فأنقذه الله كما انقذ اسماعيل؟”.
فأجاب أبي: “حسنًا، ان فعل ذلك سنرميه مجدّدًا الى أن يقدّر له الله أن يموت…”
واصل أبي وأمّي حوارهما حولي وكنت أشاهد العفاريت من حولي تتلوّى في فزعها محاولة أن تخبرني بما سمعت لكي أفرّ ولكنّي كنت لا أستطيع الوقوف على قدماي بعد، لازلت رضيعا لم ييبس رأسه بما يكفي، وليزال جبينه طريًا وكذا أقدامه الصغيرة.
حملتني أمّي بكلتا يديها وقالت: “اللهم قوّني على رمي هذا المسخ”.
جاء أبي وحملني في قفّة وغطّاني بمنديل بمربعات بيضاء وزرقاء وكأنّي خبز الله الغائب، خبز يعجنه بعشوائية ليلقيه بعدها في عبث الحياة، ثمّ ليغيب عنه ما دام يتنّفس، فيلتهمه عندما يُلامسه الموت…
بكت أمّي دمعةً واحدة وكانت غزيرة بما يكفي لترسم خطًا طويل على وجهها، وتحرّك أبي خطوة تتلو الخطوة ليلقيني الى الذئاب، دخل الفضاء الشاسع وسط ليلة يملأها صوت الصراصير، تتلاقف فيها الخفافيش حشرات الظلام الفاحش، وكانت بنات آوى في موسم تكاثرها تبحث عن الحياة، نزعني أبي من القفّة ووضعني في مكان خالِ ليس بيني وبين الله شيء الّا النجوم في سماء صافية، وضعني هناك ودعى الله آخر مرّة: ” خذ يا الله هديّتك، لم تعجبني، لا أريدها، لقد أنزلت علينا اللعنة به ودنّستنا في القرية، من ذا الذي يقبل بأن يكون الرجل والمرأة في جسد واحد، من أين أتتك هذه الفكرة؟ ان لم تفعلها أنت فلمَ تركت الشيطان يعبث بخليقتك، أقتله يا الله أقتله وامحه للأبد”.
رفع أبي قدمه ليدوسني آخر مرّة، ليضمن موتي قبل أن تلتهمني الذئاب، ولكنّه رفعها في آخر لحظة وحمل قفّته وفرّ بعيدًا عنّي، أمّا أنا فقد أعجبتني النجوم، بقيت أتأمّلها باحثًا عن نفسي فيها، باحثًا عن الله، عن قدره وعن ملائكته، وكانت الذئاب تشمّ رائحتي من بعيد، رائحة لحم ساخن تحت سقف الموت، كانت تسمع دقّات قلبي الرهيفة، وجريان الدم في عروقي الصغيرة، وكذلك كانت تفعل الضباع، كنت أسمع عويها من مسافات بعيدة، وواصلت أنا مشاهدة النجوم وتلك النيازك الصغيرة التي كانت تمرّ في السماء حاملة فيها الصلوات المستجابة ورجم الشياطين…
لقد قيل أنّي من خلق الشيطان، فلمَ اذن لم تسقط عليّ نيازك الله الحارقة؟، لمَ تركني الله ألتهم الليل ونجومه دون أن يقذفني بحجارته؟، لقد خلقني الله، خلقني الله وشاء فسوّى، أمّا الشيطان فلم يكن سوى دمية في يد الامام لارضاخ القرية أكثر لسلطته.
قذفني الله في الوجود، كائنًا معصوب العينين، عاري، ضعيف، خائف، جاهل، وخنثى، وأرادني أن أواصل في الحياة، أن أؤمن به وأن لا أكفر، أن أغمض عيني وأترك الألم يلتهمني من الداخل ثمّ ليعيد خلقي كما يشاء، ليعيد تشكيلي حسب حاجته في أن يؤذي، أن يرسم بيده وجها قبيحًا لكلّ شيء، وكان الألم ولايزال لعبة خسيسة في يد الله لينسف الحياة بداخلنا وليجمّل الموت، ليجعله يبدو حياةً أجمل، حياةً ينتهي فيها التنفس والشعور، تنتهي فيها الأحاسيس والتخيّلات، ويعود كلّ شيء كما كان؛ لا شيء.
وليزال الألم يقتاتني شيئًا فشيئًا الى أن يبتلعني فيه بالكامل فأغدو ربًا للألم والموت، وصور النجوم من حولي تحمل لي فيها ما أرادني الله أن أكونه في البروج، مسخًا، ملعونًا، منبوذًا، مكروهًا، مُعابًا، متخنثًا، وحشًا، موتًا، شيطانًا، شرًا، محوًا،وكلّ ما قد يمقته القرويّون ويحتقرونه.
كذب الامام وصدق، فربّما خلقني الله ولم يخلقني الشيطان كما ادّعى، ولكن بالتأكيد قد خلقني الله بنفس اليد التي خلق بها شيطانه، خلقني بنفس اليد التي .تخرج مع عرقها انزيم اللعنة والتقزّز، انزيم النبذ، امتدّت يده التي كوّنت ابليس وراحت تعجن التراب راسمة فيه بعض الكفريات، ومن ثمّ طمست جنس الدمية الطينية وكوّرت هناك عضوًا شاذًا لا يشبه شيئًا في هذا المحيط، لقد كان بمقدور هذه اليد أن تأخذ بالحسبان مكان وقوعي في هذه الحياة، ولكنّها قذفتني عمدًا أو سهوًا في مكان يقدّس عضو الرجل ويتشهّى عضو المرأة ويتقزّز من باقي الأشياء.
كانت بالقرب منّي شجرة سهليّة تمدّ أغصانها كالظلّ على السماء، وكانت الشجرة الوحيدة في هذا السهل البور، وكنت أنا بين ظلّها الليلي المنصهر في ضوء القمر وبين اللامعنى المنتشر في كل مكان، أحدّق في كلّ شيء وكأنّه لا شيء، فاقد للفهم، فاقدٌ للتركيز، أرى تلك اللوحة النجميّة المرسومة في السماء وكأنّها لا شيء أيضًا، وكل ما يَفتَتِنُنِي فيها هو بريقها وأضواءها الكاسرة للظلام.
لم أبكي ولم وأصرخ، بل بقيت ساكنًا، هادئًا، مترقبًا لكلّ شيء، لم آبه للزمن، لم أكن أفهم بعد ما معنى أن يكون هناك “زمن”، ولم أفهم بعد معنى المكان أيضًا، كلّ شيء كان متأصّلًا بذاتي وحدها، وكنت أرى العالم من عيني وكأنّي أرى من ثقب صغير بداخل علبة، لا شيء كان من حولي ذا معنى، كل شيء كان فاقد للمعنى، وحتى وجودي أنا أيضًا.
مرّت الساعات وكأنّ لا شيء قد مرّ، الصورة نفسها تتكرّر بشكل مريب وعدمي في نفس الوقت، أنا أحملق في سماء صافية ونجوم تطوف فوقي بشكل دائري، شجرة تلاقح القمر فيغدو ظلّها الليلي ينساب حولها كجدول من الماء، النيازك تتساقط كنافورة الاهية عبثيّة، أمّا الذئاب فلم تقترب بعد منّي، اذ يبدو أنّها لم تتشهى لحم خنثى، فربّما هي أيضًا يحكمها نفس القانون الذي يحكم القرية حول الجنس.
بحثت عفاريتي عن أي طريقةٍ لكي تنقذني، وحينما بدأ غُلس الفجر يقسم السماء، وبدأت الشمس تنقضّ على الجبل من أسفل مكان غير معروف،وبدأت السماء تتلوّن بألوان الفجر والشروق، اشتمّت كلبتنا المشوّهة رائحتي من القرية واتبعت عفاريتي التي ساقت رائحتي اليها، وراحت تشمشم في الأرض وتمشي باحثة عني، لقد فهمت أنّ سيّدها الجديد في خطر محدق وأحسّت بإحساس الأمومة اتجاهه وراحت تحفر في القدر خندقًا خاصًا بها لتجذبني منه بصدق كولادة ثانية لي، وصلت اليّ وقد كنت باردًا، أزرق اللون، وما ان شاهدتني راحت تنبح باحثةً عن طريقة ما لتحملني في فكّها، كانت تحملني وأسقط منها،تحملني وأسقط من فاهها كعجينة متعفّنة، الى أن شدّتني بين فكّيها كما تحمل الكلاب جِراءَها، لقد خنقتني بعض الشيء وهي تشد على رقبتي ولكنّها كانت محترفة بجس النبض فيها وكانت تعرف كيف تبقيني على قيد الحياة وهي تخنقني في نفس الوقت.
حملتني وجرت الى بيتنا وكنت ألاحظ أقدامها وهي تحارب حصى الطريق لتمضي في دربها لإنقاذي، لم تلتفت يمينا ولا يسارًا، جرت دون كللٍ أو مللٍ ولم تتوقف الّا وهي بالقرب من باب بيتنا، وقبل أن يخرج القرويّون من بيوتهم وضعتني أمام الباب ورأسي على الأرض وراحت تنبح بأقصى قوّتها لتنبه أهل البيت بوجودي، ورحت أبكي أنا أيضًا متوسّلًا الطبيعة أن تتغمّدني في رحمتها، هنيهات قليلة فقط وجرت أمّي بخطوات متسارعة نحو الباب مذعورة، بعد أن سمعت صوتي المبحوح وأحسّت بوجودي بالقرب منه، فتحته بلهفةٍ باحثةً عنّي وما ان وجدتني هناك حتّى انفجرت باكية تتأمّلني وتتأمّل الكلبة التي كانت تلهث وهي تمدّ لسانها لتعبها ولفرحتها بإنقاذي.
حملتني أمّي في حضنها وهي تعانقني وتبكي ومن ثمّ أغلقت الباب في وجه الكلبة المشوّهة دون أن تشكرها حتّى..
لقد أنقذتني كلبتنا لايكا، كلبة شوّهتها الطبيعة كما شوّهتني بعد أن وضع الذباب الأزرق بيضه على عينها ووجهها ليأكله دوده ويمضغه على مهل، لتصبح كلبة بنصف وجه، مثلي تماما بنصف جنس، ولكنّها كانت كلبة وفيّة، كلبة لا تأكل سوى فضلات البيت وما تجده على الطرقات، ولا تبيت الّا على التراب، لا تدخل البيت الّا لبعض الثواني، تعيش الشتاء تحت مطره وتعيش الصيف تحت شمسه الحارقة، ولكنّها تحس بكل المشاعر العائلية الصادقة اتجاهنا، فهي ترى فينا أهلها وعشيرتها وترى نفسها تنتمي لنا وفينا، وكان حمارنا صديقها الوفي تبادله أيّامها تبيت معه أحيانا وترافقه أحيانا أخرى لجلب الماء، لقد كانت لايكا كلبةً صادقة، طاهرة، شريفة وحنونة، ولم تأبه لجنسي أبدًا،حملتني بين فكّيها وأعادتني الى بيتنا وهي تظن أنّي ضائع وهي تجهل أن أبي قد ألقاني بإرادته الى الموت لينجو هو من ضغط القرية ومجتمعها الطاغي والمتجبّر.
كيف استطاعت الكلبة أن تكون أفضل خُلُقًا من الإمام؟ الكلاب أفضل من البشر، حتمًا هي أفضل من الكثير منهم، انّ نظامها الأخلاقي غير قابل للعنصرية، هل شاهدت في حياتك يا أنا كلابًا بيضاءً تكره كلابًا سوداءً؟ هل رأيت كلابًا طويلة تكره الكلاب القصيرة؟ هل لاحظت أي تميّيز مردّه الجنس أو الأصل بين الكلاب؟ هل شاهدت أي اضطهاد لإناث الكلاب باسم الذكورية؟ لا وألف لا، العنصرية والجهل والتخلّف صناعة بشرية بحتة، انّها صناعة العقل البشري المضطرب، أمّا الطبيعة فتقبل الجميع بين أحضانها بلا تميّيز، ولهذا أخلاقيًا كانت دائمًا الكلاب أفضل من الكثير من البشر.
بقيت لايكا عند الباب تلهث وتمدّ لسانها، لم تكن تنتظر شيء بالضرورة مقابل انقاذها لي ولكنّها كانت تنتظرني لأكبر قليلا بعد وقت قصير لألاعبها كأمٍّ ثانية لي، لقد استطاعت تهريبي من فكي الله وموته، واجتازت بي درب الحياة لتضعني مولودًا جديدًا لها أمام باب القاتل بأمر الله…
حملتني أمّي بين يديها المرتعشتين، ومشت الى أبي الذي كان يغطّ في نوم عميق بعد أن تخلّص من ابنه وكأنّه لم يفعل شيء، نادته أمّي: ” رَجُلي، رَجُلي، انهض”، ردّ أبي وهو يقاوم النوم: ” ماذا هناك؟” أجابته أمّي: ” لقد أنقذه الله”، نهض أبي مُسرعًا تعصره الدهشة: ” ماذا تقولين؟”، ردّت أمّي: ” لقد أنقذه الله، أنقذ الخنثى الذي خلق، لقد قُدِّرَ له أن يعيش”، قام أبي من سريره وهو غاضب: ” لقد فعلها ذلك الخسيس”، اقترب منّا وسأل أمّي: ” وكيف عاد الى البيت؟”، أجابته أمّي: “أتت به لايكا ووضعته أمام الباب”، سألها أبي مستغربًا: ” لايكا؟ الكلبة؟”، أجابته أمّي: ” نعم الكلبة”، صرخ أبي بغضب: ” تلك الكلبة الملعونة، سأجعلكِ تتوجّعين اليوم يا صاحبة الوجه المأكول”، أمسك أبي حزام سرواله وخرج يبحث عن لايكا والتي كانت تنتظر هديّتها لقاء انقاذي، هرع أبي باحثًا عنها وما ان وجدها حتى انقذّ عليها يضربها بحزامه بكل غضب وهي تنبح متألّمة تحاول الفرار منه دون جدوى.
أذاقها أبي العذاب ولم يشفي غليله، دخل البيت وهو يكفر ويشتم الجميع، أحضر السكّين وجاء ليذبحني ولكنّ أمّي فرّت بي الى غرفة أخرى وأوصدت الباب وهي تبكي، لقد تحرّكت غريزتها أخيرًا لإنقاذي، وراح هو يدقّ الباب مترجيًا أمّي وباكيًا أيضًا: ” أفتحي الباب، افتحي الباب واتركيني أضع حدًا لسخرية الله منّا، اتركيني أقتل هذا الشيطان”، ولكنّ أمّي قاومت نداء القتل الذي كان يحزّه في نفسها وانطلق صوت من عميق داخلها وردّت عليه : ” أتركه يعيش، أترك ابني يعيش”.
لأوّل مرّة تعترف أمّي أنّي ابنها، لأوّل مرّة تمسكني في حضنها وهي غير مكرهة، غير مضطرة، ربّما قد احتاجت لهذه الفاصلة السوقية التي خطّها الله بارادته لتفعل ذلك، كانت في حاجة ماسة في أن أولد ثانية من مهبلٍ آخر غير مهبلها لتشعر بأمومتها اتجاهي، لتتقاسم لعنتها مع أي كائن آخر، وان كانت كلبة، فكانت هذه هي فرصتها المناسبة لذلك، فرصتها في أن يكون ذنب ولادتي مخففًا بولادة أخرى، لقد تفتحت زهرتي بداخلها عندما انفتح مهبل الكلبة وانزلقت منه كالعطش، كالسكون، كالسكوت، كالتمرّد، كالحرب، وكريح السلام، وكانت أمّي قابلتي هذه المرّة، شاهدت بأم عينها رأسي وهو ينثني ويطوى ويتمدّد ويتجعّد ليسع تضاريس مهبل الكلبة، سَحبني الله من أحشاءها المعنوية وكتب لي أن أواصل في الحياة ككلب حقير، أن أواصل دورًا رسمه لي في فكّ كلبة مشوّهة أكل الدود نصف وجهها، ودفعت لايكا ثمن ولادتي بهراوة عظيمة من أبي، دفعت ما كان على الشيطان أن يدفعه، ما كان على الامام أن يدفعه، وما يدين به الله للمشوّهين، لقد ولدت من مهبلين، مهبل بشري ومهبل كلبة، وفي الأولى كان حقًا عليّ الموت وفي الثانية كان حقَّا لي الحياة، الحياة كانسان وككلب أيضًا، الحياة كذكر وكأنثى وكخنثى، وكجثة مقتولة، وكروح مهدورة، لم يكن في وسع الله في حياتي الّا أن يواصل مزحته الثقيلة وأن يردّ لأبي إهانته، وأن يسلّمني له من جديد، لم يكن من حق الله أن يرفضني، ولكن كان حقًا له أن يرسم لأبي طريقين، أن يعطيه الخيار، أن يقتلني أو أن يحيّيني.
واصل أبي صراخه وبكائه الهيستيري أمام باب الغرفة الموصد، وكانت يده ترتعش وهو يحمل السكّين، وقد خارت قواه ومنعته من كسر الباب وهتك حياتي، واصل صراخه الهيستيري وحاولت جدّتي منعه ولكنه دفعها وسقطت أرضًا كجبل رخو، وحينها تأمّلها بشفقة عليها وعلى نفسه وعلى كل ما قد تدب فيه الحياة من حوله، وأسقط السكّين من يده، سقط السكّين من يده كما تسقط ورقة الخريف الصفراء، تخوّضت روحه بتمازج مشاعر مظطربة وراح يكلّم ربّه كفتى الحقل المنهك: ” يا رب، يا رب لقد منحتني خنثى يا رب وأنا العابد لك والشاكر فَلِمَ الابتلاء؟ لماذا تصرّ على ابقائه حيًّا، دعني اقتله يا رب أو اقتله بقدرتك… اجعله يموت يا الله، أرسل له ملاك الموت المستعجل، قف قلبه الملعون، أطفئ بصره، اسحب روحه، احرقه وخذ رماده، أرسل عليه العذاب، قِنّا منه يا الله”.
تردّدت أمّي قبل فتح الباب، رمت يدها الى قفله مرارًا وتكرارًا دون جدوى، كانت خائفةً ومتوترة، لأوّل مرّة منذ دخول الهواء لرئتي شعرت انّي كنت ابنًا لرحمها،وما فتأ أن هدأ أبي من صراخه حتّى فتحت أمّي الباب رويدًا رويدًا، مشت حافيةً اليه، وكان يتأمّلني كذئب جائع، محمّر العينين، أسود الوجه وهو كظيم،راح ينازع غريزة القتل وهي تعصره اتجاهي، قالت أمّي له وهي تدعو الله في سرّها أن يلين قلبه: ” انّه ابنك يا زوجي العزيز، انّه ابنك وعليك أن تحبّه وأن تحميه، انّه طفل فقط، انّه من صلبك، لقد كتب الله له أن يعيش، انّ لله حكمة فيه…”….
كان وجه أبي يتّخذ أشكالًا كثيرة، مربع، فمثلث، فمعيّن، فدائرة، ثمّ يعود مجدّدًا ليرتسم كمحيّى انسان حي، ضاع القبح في شيطان وجهه، وهو يعصر قبضة يده ليمنعها بركان الغضب اتّجاهي، نظرت اليه حينها، حدّقت في عينيه مباشرة وقد دلّتني عفاريتي على مكنونهما الداخلي، وحينما لامست بؤبؤ عينيه بأطراف أصابعي، راح الشيطان يخرج من وجهه شيئًا فشيئًا وعادت عيونه تخون الذئب الذي استعمرها لتصبح عيون حمل وديع، استسلم لي في آخر لحظة ثمّ أخذني من يدي أمّي أخذةً لطيفة، تأمّل وجهي لأوّل مرة بعد أن أنهك ناظريه برؤية ذلك العضو المشوه الذي حمّله لي الله، ولأوّل مرّة يفهم أبي أنّ لي وجهًا يمكن النظر اليه ولأوّل مرّة أيضًا يفهم أنّي من صلبه وأن وجهي بشري بالحجم الكافي لكي لا يكون وجهًا للشيطان.
في البداية كان وجهي ممحيًا، عندما صرخ الامام بأعلى صوته أن الله قد تنكّر لجنسي اللعين في القرآن، خُطِف من أبي بصره، وتشكّل حاجز أبيض بينه وبين وجهي، وصار يرى فيه عضوًا جنسيًا فقط، عضو دسّ فيه الله الوقود وأشعل فيه عود ثقابه فأكلت النار ملامحه، ودنّس الجحيم مخارجه ومداخله، فغدى لغزًا يقتات وجدان الناظر اليه، لقد كانت الأفعى المخبئه في التشوّه تتلوّى على عضوي وتعصره كل لحظة لتذرف سمّها في كل مبصرٍ فيه، وحينما تكلّم الله معها صار كفيفًا في وجهي، صار أعمى، نسى الطريق اليّ فتناساه كلّ ناظر لي وكذلك فعل أبي؛ لقد نسى الله.
أمّا الآن فقد خاطبته عفاريتي وجعلته ينظر في وجهي ما منعته الأفعى رؤيته قبل ذلك، لقد أبصر عينين وملامحًا شاردة، رأى شفتاي اللتان لوّنهما الخوف، رأى في وجهي صدمة سوداء على صفحة بيضاء فارغة، رآني أتسائل في حيرتي: ” أهكذا يولد الإنسان؟ أهكذا تبدأ الحياة؟”، ثمّ شاهدني أتألّم وأترجّاه مبتسمًا وخائفًا وقد خانتني اللغة التي لم أتعلم منها شيئًا بعد لأطلب النجاة منه بحروف البشر، ونطق الحجر الذي بداخله وأمسكني بين أحضانه وقد شمّ رائحتي لأوّل مرّة، فصار يحدّق بي وكأنّه يلتهمني ببصره يحاول رؤية كل ما قد أغفل عنه بعد وجهي، تأمّل يدي الضعيفة، تأمّل قدمي العارية، تأمّل شعري الذي توسّخ بغبار السماء والأرض، وراح يكتشفني، يقرأ في مجسّمي التافه ما قد كان أميًّا فيه، ودقّ قلبه، لقد رأيته وهو ينبض لأوّل مرّة وعادت الدماء تسري في عروقه الناشفة مجدّدًا، انقبض صدره وضُخّت فيه الروح، وتنفّس شهيقًا طويلًا ومخيفًا ثمّ تنهّد وقال: “انّه جميل”.
عندها فقط غفرت لنفسي قبحي وتشوّهي، وغفرت له ما قد مسّني منه من ضر، لأوّل مرّة يُكتشف فيَّ جمال ما، شيء ما يستحق في هذا المخلوق المشوّه الحياة وقد أحسّ أبي به، لم أكن قبيحًا بشكل مطلق، لقد كان في نفسي جزء جميل أدركه أبي بقلبه، انّه الحياة التي تدّب في طينتي، لست جسدًا فقط، لست مادة، أنا الحياة ومِن نفخ الله وروحه.
كان لي عَيْنَا أبي وثغر أمّي، كان في وجهي خريطة عائلية ورسمة الأجداد، لقد كنت من صلبه وكان الأمر واضحًا جدًا وبلا نقاش، حملني أبي بين أحضانه وعيناه المتأمّلتان، ودون ارادة منه رفعني اليه شيئًا فشيئًا، وقبّلني على جبيني… وكانت تلك أوّل قبلة في حياتي.
لقد منحتني كلبتنا لايكا كلّ شيء، منحتني ما كان الله عاجزًا عن منحي ايّاه، منحتني حياةً جديدة، منحتني حبًّا وعطفًا وحنانًا، منحتني أمّي ورحمها، ومنحتني أبي وقلبه وقبلته، بفضل كلبة أكل الدود نصف وجهها صار لي وجهًا كاملًا، صار لي قلبًا نابضًا، وصارت لي روحًا تدبّ في داخلي، انّ الله يودع أسراره في أضعف مخلوقاته، وأحيانًا في أحقرها، في أنذلها ، وفي أكثرها تشوّهًا، لقد صرت مذّاك اليوم مدينًا للكلبة، مدينًا للكلاب، مدينًا لكلّ مخلوق مشوّه، وفي كلّ كائن يوضع على الهامش، فأولائك الذين يبرزون في نصف الورقة لا يفهمون الخط جيّدًا كأولائك الذين يتأمّلون حروفه وهم يقفون في الهوامش، وهم يولدون من مهابل الكلاب….
أنور رحماني
االخنثى: حالة بيولوجية طبيّة تقترن بالجنس حيث يولد الكائن الحي بما فيه الانسان بجنس غير معرّف ثنائي الجنس، حيث تجتمع في عضوه الجنسي علامات الجنس الذكري والأنثوي معَا ويكون من الصعب تحديد جنسه، بعض الكائنات الحيّة خنيثة الجنس بطبيعتها كالحلزون ودودة الأرض.