تمرّ الجزائر عبر نفق مظلم، مليء بالوحوش، وحوش الفكر، وحوش الدين، وحوش الاقتصاد، وحوش السياسة، ووحوش الخلية الأولى؛أشباه المواطنين، ولا شيء في هذه الدولة يشبه الدولة، مجرّد تمثيلية سياسية واجتماعية يمثّلها الجميع باتقان، انّها مسرحية ناجحة، وفاشلة في نفس الوقت، نتوهّم أنّنا في دولة، ونتوهّم أنّ لهذه الدولة مؤسّسات، نتوهّم تاريخها وجغرافيتها، كما نتوهّم سيادتها، انّها دولة الوهم…
انّ هذا التصديق التام بوجود هذه الدولة على أرض الواقع يحيلنا الى عدّة أسئلة عن مفهوم الدولة وعن حقيقة الدولة، وعن هذه الدولة وآليات عملها، ولا شكّ أن دولة الوهم لا يمكنها بأي طريقة أن تحل محل دولة الدولة أو كما تسمّى بتعبير آخر دولة القانون، ولو كان هذا الوصف الأخير أقرب للوهم هو كذلك من مفهوم دولة الدولة الذي أسعى لوضعه من خلال هذا النص.
فلنكن موضوعيين، أن نمثّل أدوارنا باتقان في مسرحية لا يعني أنّ المسرحية حقيقة، فما يحدث خلف الكواليس أقرب للصدق مما قد يصل للجالس على الكرسي أمام الخشبة، أن نمثّل أنّنا مواطنين لا يجعلنا كذلك، أن نمثّل وجود قانون لا يجعله كذلك وأن نمثّل وجود سلطات ثلاث ومؤسّسات قائمة أيضا لا يعني وجودها الحقيقي بالضرورة، وانّ السيادة التي تفتخر بها دولة الوهم هي سيادة كاذبة وجزء من المسرحية التي يحاول فيها كاتبها أن يتنصّل من نصّها الذي كتبه بيده، الأمر أشبه بأن يحاول أب جزائري أن يقنع طفله الصغير بأن قطعة خمسة دينار الكبيرة أفضل قيمة من قطعة خمسين دينار الأصغر منها، وعادة ما ينجح الأب الجزائري في ذلك لا شك تمامًا كما تفعل دولة الوهم مع ضحاياها المواطنين، فالتفاخر بالسيادة العظيمة الوهمية المبالغ فيها قد يكون أكثر اغراءً للجزائريين من السيادة المتواضعة الحقيقية الموضوعية والمدروسة على أسس المصلحة الوطنية، ولكن هذا لا يستطيع أبدًا أن يجعل من دولة الوهم حقيقيّةَ أو أن تمتلك سيادة حقيقية.
هذا المشروع الدولة المزيّفة الذي أقمناه منذ الاستقلال والقائم على خلق احاسيس كاذبة لدى العوام بوجود هذه الدولة وعلى تثبيت الدولة كفكرة لا كمهام قائمة ولا كمؤسّسات محدّدة الوظائف جعل الجزائر تدخل في دوّامات عنف منذ بداية وجودها الاعتباري في الساحة الدوليّة، وذلك بكون الدول لا تبنى على الأحاسيس التي تبعث بها السلطة لشعبها ولا عبر الفكرة الوهمية التي تقدّم على أسس من التكرار وغسيل المخ، بل عبر ابراز الدولة كمهام قائمة لصالح الدولة ذاتها لا لصالح الجماعات الانتهازية القريبة من السلطة أو في السلطة، فالدولة ليست التجربة الشخصية، ولا المونارشية العائلية، بل هي عنصر نسبي يتوّلد من خلال المصلحة المشتركة لأفراد المجتمع الواحد، الشعب الواحد، لغاية بنائها وتطويرها وتحسين الخدمات التي تقدّمها بنية تحسين حياة المواطن.
لا شكّ أيضًا أن الاحساس بالدولة ضروري أيضًا ولكن على هذا الاحساس أن يكون ردّة فعل وليس فعلًا في حدّ ذاته، بمعنى أن لا تقوم الدولة ببعث الاحاسيس بل أن تستقطبها كردّة فعل طبيعية للمواطنين لعملها ووجودها الحقيقي، الأم المثالية ترعى أبنائها وتنتظر منهم أحاسيس المحبّة والولاء بناءً على ما قدّمته، أمّا الأم السيّئة قد لا تقدّم شيئَا على الأطلاق ولكنّها تفرض على ابنائها بالإسرار والتكرار محبّتها والايمان بوجودها كأم حقيقيّة.
انّ وجود الدولة غير مرتبط في الأساس بوجودها كدولة في الأمم المتحدة أو أن تحوز اعترافا دوليا بسيادتها على اقليم معين لشعب معيّن وأن تحكمها دساتير وقوانين داخلية،أو أن تكتمل فيها أركان الدولة؛ الاقليم، الشعب والسلطة، بل وجود الدولة اليوم مقترن بمدى نجاح الدولة في جميع الميادين والميدان الأسمى الذي يجب أن تسعى اليه الدولة لتبرير وجودها هو الانسان، وكيف استطاعت أن ترتقي بهذا الانسان الى مصاف الانسان الحضاري المتعايش مع بعديه الزمني والمكاني والغير محصور فيهما وامكانية تجاوز هذا الانسان لهذين القيدين ليصبح انسانا مجدّدًا يدفع بدولته الى الأمام.
انّ الدولة، أي دولة كانت بما فيها الجزائر، هي مجرّد افتراض قائم على عدّة عوامل، تاريخية ولغوية وعرقية وجغرافية ودينية…الخ، وعلى الدولة أن تعيش كجهاز دائم الارتباك، دائم البحث عن دلائل وحجج وبراهين تثبت وجوده، انّ الهدف الأصعب للدولة هو اثبات وجودها وتبر يره.
الدولة ليست حالة ثابتة فمن خلال نسبيتها عليها دائمًا أن تبرّر وجودها لمواطنيها، وهذا أمر مجبرة الدولة على القيام به من خلال تصرّفات سلطتها ومن خلال قوانينها وشفافيتها وقدرتها على تأمين حياة رغدة لمواطنيها وتطوير وعيهم الحضاري، وعندما تفقد الدولة قدرتها على تبرير وجودها تصاب بالميوعة ثمّ التحلّل ثمّ الانقسام ثمّ السقوط وهذا ما يحدث في الجزائر الآن للأسف.
انّ هذا الاستنتاج لا يقوم على قواعد واهية بل هي نتيجة حتمية لأي محاولة لاستنباط الوضع ودراسته من كل الجوانب الممكنة وانّ الاستخفاف بخطورة الوضع الراهن سيجعلنا نندم كثيرًا في النهاية قد نودّع الجزائر الى الأبد.
انّ الدولة هي ما ورثناه عن حيوانيتنا القطيعية، فالذئاب مثلًا كائنات اجتماعية كالانسان، تنظّم نفسها في قطيع، وتحدّد مجالها الاقليمي عن طريق التبوّل على الأشجار، وتحاول بذلك الذئاب تحمي مقدرّاتها الغذائية وأن تحتكر مجال الصيد وستدافع عنها، وبالرغم من أن الذئاب غير قادرة على استعاب مفهوم الدولة الّا أنها تحوز جميع عناصرها الثابتة من اقليم وشعب (قطيع الذئاب في هذه الحالة) وسلطة حاكمة تتمثّل في الذئب القائد للقطيع، ولكن الدولة الحيوانية ان صحّ القول لا يمكنها أبدًا أن تكون دولة بمفهومها البشري، فزيادة على الحفاظ على مقدّرات القطيع تكون للدولة البشرية مهام أخرى هي تعليم أفرادها وتحسين ظروف حياتهم وتأمين الصحّة والعمل و الغذاء بكل الطرق وبناء الاقتصاد وتشجيع البحث العلمي والفنون والأدب والفلسفة بما يخلق حركية ثقافية حضارية في القطيع البشري (المجتمع)
ان دولة الذئاب تحافظ على مواردها ثمّ يفرض القائد على الجماعة حصوله على أكبر نسبة ممكنة من الموارد الغذائية وأن يترك الباقي لباقي أفراد القطيع للتقاتل عليه، أما في دولة البشر فالقائد يعمل على الحفاظ على الموارد وتوزيعها بالعدل على أفراد الشعب والساكنة، كون هذه الموارد في دولة البشر ليست هدفًا للدولة بل أداة من الأدوات الابتدائية للدفع بالانسان لانتاج حاجيات الدولة التي تحتاجها فعلا، فالمورد ليس سوى وقودًا للانتاج، ففي أي دولة نحن؟ دولة البشر أم دولة الذئاب؟
انّ اقتصاد الاقطاع الذي اتخذته الدولة بنية رأسملة السوق، ليس على الاطلاق نفسه النهج الرأسمالي، فالاقطاع كان سببًا في تأخّر روسيا القيصرية لمئات السنين ولتأخّر أوروبا عن ثورتها الفكرية والصناعية، فالنهج الاقطاعي يعدّ أداة في يد الحاكم لاخضاع الدولة والشعب لسيطرته عن طريق خلق جماعات مصالح ولوبيهات تحافظ على وجودها بالحفاظ على وجود القائد وهي آلية في يد هذا الأخير لصناعة الولاء المزيّف، عن طريق تسهيل وصول الثروة ليد مجموعة من الانتهازيين دون غيرهم للتغذّي السياسي من جشعهم وطمعهم فيما بعد ومن مصلحتهم الوطيدة ببقاء هذا القائد والمرتبطة ببقائه على سدّة الحكم.
وانّ هذا النهج الاقطاعي الذي اتخّذته الجزائر يبدو واضحًا جدًا من خلال المسار الفاسد الذي سار فيه الاقتصاد الوطني خاصة في العقود الأخيرة والثراء الفاحش والسريع الذي أصبح ميزة العديد من الأسماء التجارية في الجزائر، وهذا ما يجعلنا نفهم وبشكل كبير مشكلة ركود الاقتصاد الوطني وضعفه وتفشي الفقر في بلد يعدّ من أغنى البلدان في العالم ثروةً ويتمتع بموقع استراتيجي هام تجاريا واقتصاديًا، الأمر أشبه بأن تمتلك حوضًا كبيرًا من الماء وأن تثقب أسفل الحوض بعدّة ثقوب، فهذا النظام الاقطاعي في الجزائر يعدّ ثقبًا كبيرًا في الاقتصاد الوطني، جعل بلادنا تفقد كل ثروتها وتحطّم اقتصادها بأصابعها وأن تنتجه بخطى متسارعة نحو الانهيار، فمجموعة الاقطاعيين الجدد في الجزائر جعلوا الجزائر تصاب بنزيف حاد في أموالها واقتصادها.
انّ فشل الدولة الجزائرية في ظبط مواردها والحفاظ عليها هو فشل في الوظيفة الحيوانية الابتدائية البسيطة لها، لقد فشلت الدولة الجزائرية بشكل ذريع فيما نجحت فيه الى حدٍ ما الذئاب وباقي الحيوانات الثدييّة، أو لسنا عندما نفشل في الوظيفة الحيوانية البسيطة عاجزين بالضرورة عن تنفيذ الوظيفة البشرية المعقّدة؟ ما الذي يمكننا أن نتخيّله أسفل الوظيفة الحيوانية لنبرّر به وجود الدولة الجزائرية، لا شيء، انّه الوهم…
وانّ تعامل الدولة الجزائرية مع ديانة الشعب كأداة لقهر الأفراد المتمرّدين على ميوعتها يعد أخطر بكثير فهذا الاستعمال المبالغ فيه لمقدّسات الشعب لتثبيت النظام الاقطاعي في الجزائر ولارساء دولة الكهنوت والاقطاع والقطيع، ثالوث ديني اقتصادي اجتماعي تقليدي وفاسد، هو نفسه النظام الذي عرفته أوروبا في عصور الظلمات، وهو نفسه النظام الذي أوقد الحروب الكبرى في روسيا والتي راحت ضحيّتها ملايين الأشخاص.
انّ الدولة الجزائرية اليوم هي في مفترق طرق، وعليها اليوم أن تبرّر وجودها وأسبابه والّا ستفقد قدرتها على المواصلة كدولة، فالوهم لا يمكنه أن يكون بأي طريقة دولة، ولا يمكن للزيف أن يكون قانونًا، ولا يمكن للاقطاع أن يحل محلّ العدالة الاقتصادية والاجتماعية، والدين القاهر والمفروض ليس أداة جيّدة لتخدير الشعب الى الأبد، الدولة الجزائرية تحتاج الى اعادة بعثها في دولة جديدة بالتخلص من كل الأوهام التي ترتبط بها، لتصبح الجزائر وأخيرًا دولة حقيقية.
أنور رحماني