arablog.org

أنور رحماني: أمي كانت أمية و تغزل الصوف…

anouar rahmani

عندما فتحت لي أول بوابة للحياة كان صدر أمي أول وسادة اغفو عليها، و كان حليبها منبتي الأول و مشربي و أول ما ابتلت به عروقي الصغيرة انذاك، و جسدها كان ترابي الذي خلقت منه، قسمت لي من نفسها و روحها و كل ما فيها لأعيش، أمي عانت كثيرا لأجلي فأنا الطفل السابع لها،الطفل الأخير و الذي للأسف كان مريضا للغاية، يم يتوقع الأطباء أن أعيش و لكن أمي أمنت بي و بقدرتي على المواصلة، و تخطي تلك العقبة في أول مشكلة أمر بها في حياتي، و كذلك فعلت بعدها في كل مرة في حياتي و ها أنا ذا حي أجسد ايمانها بي.

كنت أرى أمي دائما ذلك المخلوق القوي و الحنون و المثالي و الذي لا يخطئ أبدا، كنت ابنا لها بقدر ما كانت هي أما لي وكنت سعيدا جدا بقربها، و حين كان موعد مدرستي جليا في الأفق صارعت من أجل تعليمي، و كانت تلك المرأة السعيدة دائما بطفلها الذي يتعلم بسرعة و الأول في قسمه، كانت تصطحبني في نهاية كل سنة دراسية لآخذ جائزة تفوقي و كنت لا أعرف لما في كل ما كنت أتوج فيها، كانت هي تزف فرحها بالدموع و كانت تحضنني بقوة، كنت سعيدا في طفولتي و أنا أتعلم فك الحروف و القراءة كانت تلك اجمل نعمة في حياتي، و أجمل جائزة جعلتني أجد اصدقائي في قصص الأطفال أو في كتب الفلك و الفضاء التي كنت أعشقها في طفولتي، خاصة أني لم أندمج سريعا في اللعب مع باقي الأطفال بسبب مرضي كتبي، كانت كل الصداقة بالنسبة لي و لذلك كنت ارى القراءة طوق نجاة.

و لكن سعادتي لم تواصل مطولا، ففي احدى المرات و أنا اقود معاركي الدراسية في المرحلة الابتدائية سألتنا الاستاذة بكل عفوية ان نقف و نتحدث عن مهنة أمهاتنا، لم أعرف ما أرد كان زملاء الدراسة انذاك يقدمون أجوبة سهلة و تبدو جميلة الى حد رائع،أمي طبيبة، أمي استاذة، امي مهندسة، أمي محامية ،أمي.. أمي.. أمي.. الا أنا أمي لم أكن اراها تعمل خارج البيت، وقفت حين كان دوري و أجبت بكل براءة: ” أمي تغزل الصوف”, راح كل أصدقائي بالقسم يضحكون و كذلك أستاذتي، أما أنا فلم أكذب أمي كانت بالفعل تغزل الصوف و الدليل تلك الكنزة الصوفية الصفراء التي كنت أرتديها، و التي كانت تقيني البرد و الكثير من ملابسي التي كانت من صنع يديها. تذمرت كثيرا في ذلك اليوم و عدت للبيت سألت أبي لما أمي لا تعمل، أجابني أمك لا تقرأ ولا تكتب، لم أفهم ماذا قد يعني هذا، لقد كان الأمر صدمة حقيقية بالنسبة لي، و شعرت بشفقة كبيرة على أمي، أمي التي لطالما كانت تطلب مني أن أدرس و أن أتعلم و التي كانت تحثني على القراءة دائما كانت هي لا تقرأ ولا تكتب.

بكيت وحيدا وحيد،بكيت لأن حالة أمي لم تعجبني كثيرا، كنت قبل ذلك أحضن أمي و أنا في قمة سعادتي و لكن بعد ذلك أصبحت أحضنها بشفقة على حالها و حزن كبير، كنت أراها أقوى كائن في العالم و لكني بعد ذلك اصبحت اراها معاقة، و قد فقدت أهم حاسة في العالم حاسة القراءة . في بداية السنة الجديدة في ذلك العام، أمي أخبرتنا أنها قررت ان تدخل مدرسة محو أمية، لقد كانت سعيدة بذلك على الرغم من كبر سنها، اشترت كراريسها و الأقلام و كانت سعيدة إلا انا أخوتي الذكور رفضوا ذلك بقوة بدعوة أن الأمر سيجلب لهم العار، لقد استطعت أن ارى في عينيها خيبة الأمل من أبنائها، فهي كل ما أرادته ان تقرأ مثلما جعلتهم هم كذلك يقرأون يوما ما، الا اني و مع صغر سني انذاك شجعتها على ذلك شجعتها مثلما شجعتني، و أصبحت أنا كذلك أصطحبها لأخذ جوائزها مثلما كانت تصطحبني هي بكل فخر.

مرت السنوات و أمي تحقق نجاحاتها في التعليم لأول مرة، أمي تقرا القران و تختمه بالكامل في رمضان لأول مرة، أصبحت أرى أمي تقرأ الأخبار العاجلة على القنوات الاخبارية، كما أصبحت تشاهد بعض الحصص التليفزيونية باللغة العربية الفصحى و تفهم كل ما يدور فيها، بعد سنوات طويلة أمي تمكنت بتحديها و بثقتها بنفسها و بحلمها بأن ترمي تلك الاعاقة الى الأبد، و أن تختم دراستها بمحو الأمية ،و تحصلت على شهادتها فأقمت لها حفلا مصغرا في البيت، لقد كنت فخورا بها، فخورا لدرجة لا يمكن لأحد أن يتصورها. اشتريت لها أول رواية في حياتها، كانت روايتين؛ السكرية لنجيب محفوظ، و ابن الفقير لمولود فرعون و كانت تلك اولى الروايات التي تقرأها أمي، و التي أصبحت الان مدمنة عليها و كذلك روايتي . أمي كانت قدوتي و مزالت، فهي قاومت لتغير الواقع و كذلك أفعل الان، فأمي بطلة بطلة عظيمة فكما قاومت جميلة بوحيرد و زهرة ظريف و غيرهن من نساء بلادي الاستعمار الفرنسي بالسلاح، أمي قاومت استعمار الجهل و الأمية بالقراءة و القلم، و لذلك أحبها و فخور بها أمي التي كانت أمية يوما ما لم تعد كذلك،و لكنها واصلت في شغفها الفني واصلت غزل الصوف.

أنور رحماني

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *