arablog.org

قصتي مع كفن للموت لعبد الرزاق بوكبة

عبد الرزاق بوكبة

قبل ان امضي صباحا من مدينتي شرشال الى الجزائر العاصمة لحضور المعرض الدولي للكتاب هناك كان من سلم اولوياتي ان اشتري العمل الاخير لصديقي الذي لا يتوانى عن تقديم الدعم لي الكاتب الجزائري عبد الرزاق بوكبة  العمل المتمثل في مجموعة قصصية غريبة الاطوار  تحت عنوان كفن للموت و هي صادرة عن دار العين المصرية كنت قد وضعت عليها الف حساب قبل ان ارتكب هذا الفعل الذي كان يبعث الخوف في الوجدان فان اشتري كفن للموت في هذا السن يبدو نذير شؤم حقا فالعنوان وحده يثير في النفس الاشمئزاز فالموت هو اكثر ما يخيف الانسان عادة فالانسان لا يتقبل ان لحياته نهاية و زيادة على هذا ارتباط العنوان بالتقليد الاسلامي في الدفن كان يزرع يقينا بان الكتاب يحوي على قبلة الشر فالكفن عادة يوحي لنا بالقصة الاسلامية لما بعد الدفن و ما فيها من اساطير مازوشية عن تعذيب بشع يسمى بعذاب القبر

و انا كمواطن جزائري قبل كل شيء عشت في هذا المحيط المكرس بتلك الافكار السلبية لما بعد الموت لم يكن بمقدوري  التخلص من العقدة ببساطة و بسهولة ففي حقيقة الامر لم اكن لاتخيل اني قد ارتدي الكفن يوما ما فانا لطالما كنت اريد ان ادفن بملابس عادية او ان تتبرع بجثتي للابحاث العلمية او التبرع بكل اعضائي و تقديم الباقي كحلوى دسمة لقطط و كلاب الشوراع فان هذا الامر لطالما كنت اراه افضل و اجمل من تلك القصة المفعمة بالتعذيب الجسدي و النفسي التي يتوارثها مجتمعي ابا عن جد بطريقة متواترة و لكني مع ذلك اردت اقتحام هذا الخوف و اقتناء الكتاب

ركبت الحافلة و في يدي رواية مترجمة للكاتب الجزائري ياسمينة خضرا  لكي اسرق اللحظات عن طريقها و تغدو المسافة بيني و بين العاصمة شبرا و نصف و لكي لا اشعر بالدوار و الغثيان بسبب رائحة النقود التي امقتها و التي كان  ( الروسوفور ) يدفعني لالمسها بسبب بعد المسافة بينه و بين باقي الركاب حيث كانت تدفعني لاتقياء نسخ جديدة عن كل وزير في حكومة سلال على سبيل الاستعارة و لكني مع ذلك قاومت هشاشة الاقتصاد الوطني الجزائري و تقيات سلال امامي فقط او شخص ما كان يشبهه فعلا كان يجلس هناك بقربي بفتح النافذة  كل عشر دقائق ليبزق بكل ما في الكلمة من معنى و كانه يسترجع كل ذركرياته و ينثرها كالقمح على الطريق و مع ذلك الوجع  ابحرت في الرواية كون هدفي كان في الاساس تطوير ملكة الكتابة لدي مما يمكنني من تصحيح روايتي التي وعدني عبد الرزاق بنشرها اذا استوفى التصحيح حقها و ركبت حلمي مع الرواية و تجسدت امامي تصورات اخرى عن شكل الكتاب و عن افكاره و فوق كل هذا تمسكت بالحيرة التي كانت ترسم  كفنا للكتاب في مخيلتي حيث اردت فعلا ان اقتله قبل ان اقتنيه و كانني في صراع معه

نزلت من الحافلة و ركبت الترامواي في اتجاه المعرض و اصبت بنوبة من الضحك الهستيري لسببين   الاول كان  الطريقة التي كان يستعملها المتسولون الافارقة لكسب رزقهم عن طريق ترديدهم للشهادة الاسلامية و كانهم يبيعونها للزبائن بطريقة كانت تشبه الطريقة التي تتجار بها الاحزاب الملقبة بالاسلامية لبيع الهواء و التخلف للجزائريين و مع اني اتضامن مع اؤلائك المتسولون و لكن اظنهم فهموا بسرعة سر التجارة الناجحة في الجزائر و هذا الامر وحده كان كفيلا باضحاكي من باب (هم يبكي و هم يضحك ) اما السبب الثاني فكان بسبب محطات الترامواي قبل وصولي للمعرض التي كانت تتراوح بين المنظر الجميل و الهواء الجميل و العليل و غيرها من الاسماء التي لم تكن تشبه نهائيا حقيقة الامكنة التي كانت تدل عليها فالبؤس كان يرسم اجنحة لكل شيء و يجعل اي انسان يحلم في الهجرة بلا رجعة من البلاد تلك المليئة بالمتناقضات و التي على الرغم منا نعشقها دون سبق اصرار و ترصد

تهت بداخل المعرض حتى وجدت (الطابلة تع دار العين ) فيما كان يشبه المعرض هناك سالت عن كتاب كفن للموت و بداخلي حرقة كبيرة فمن جهة كنت اريد بشدة ان اقتني الكتاب و ان اتعرف على على اسراره مما كان يحمله من غموض يدفع بالفضول الى التوق الحار لملاقاة حروفه و من جهة اخرى لا احد فعلا يرغب في شراء كفن لموته و مع ذلك اشتريته و للاسف صديقي الكاتب لم يكن حاضرا يومها فاكتفيت بالكتاب

كان يغلف الكتاب كيسا بلاستيكيا لم اكن اريد فتحه هناك مما كان يقدم الكتاب كهدية عيد ميلاد و لكن من هذا الذي يقبل كفنا هدية و مع ذلك مزال نفس الفضول الذي يسبق فتح الهدية يعتريني و اجلت الامر للطريق و بداخل المعرض الذي زرته كقاريء استوقفني الكثير من الزائرين يلقون التحية ممن كانوا يقراون لي على مدونتي على الانترنيت و قد كنت سعيدا جدا بهذا

في الحافلة فتحت الكتاب بخوف بليغ و كاني اصبت بفوبيا منه و لكني قاومت كالعادة و فتحته و رحت اقلب اوراقه و عيني تلاحظ شيئا لم يسرها للوهلة الاولى كانت الكلمات ترتعش في الرواية اوراق شبه فارغة و اخرى لا تحمل في اوتارها سوى بضع كلمات او اسطر لم افهم شيء قلت في الامر خطب ما ربما خطا مطبعي او شيء من هذا القبيل و ربما اكثر من ذاك قلت في قلبي ( هدا راه يتقاعد بنا ) و شعرت و كاني استلمت (حشوة ) كبيرة من الكاتب الذي كنت اراه قدوة في اللغة و الاسلوب بكل صراحة

و لكن الامر تغير جذريا عندما بدات اقرا الكتاب في الحافلة لقد كان شعورا غريبا جدا و كانه سحر ما جاء ليحي الموتى لا ان يقتل الاحياء كفن كان كفيلا لرقصة تانغو عوض الموت شعرت و كان الكتاب احتفاء بشيء ما لم ادركه لحظتها سوى بذلك الشغف الذي كنت اقراه فيه بصوت كان كفيلا بازعاج المراة التي كانت تريد ان تنام بجانبي مما دفعني الى قرائته سرا كالصلاة

لقد كان الكتاب سريعا جدا يشبه صلاة الجنازة مليء بالتكثيف اللغوي و كان المشهد يرسم لوحة بداخل عقل القاريء يكفي وصفها عشرات بل مئات الصفحات حيث اني لم اشعر انها مجموعة قصصية بل مجموعة روائية تطل على فضولنا اللغوي فتنبت فينا الرغبة في البكاء و الضحك في نفس الوقت لما كان فيها من تناقضات اولا و لما كان ايضا فيها من حرية في الخيال ثانيا حيث ان القاريء لا يكون في مجموعة عبد الرزاق هذه مكبلا بخيال الكاتب بل حرا  في رسم الطابلو الذي يريده  بفتح القوس اليسار للقصة مما يجسد الحرية في اسمى اشكالها في الكتاب

لقد كانت علاقة عبد الرزاق بوكبة بالقاريء في مجموعته القصصية علاقة محبة  خالصة حيث عبر الكاتب عن امتنانه لقارئه و الامر كان واضحا في الفكرة و الاسلوب المختلف الذي يلخص ان الجمالية ليست في المظهر بل في المحتوى و العظمة ليست في الحجم بل في قوة التصوير الامر الذي تمكن منه عبد الرزاق بوكبة بشكل كبير جدا مما فتح شهيتي لكتابة شيء ما استعمل فيه التكثيف و انتهى بي الامر و قد كتبت كتابي سوبيرات اللحظة الاخيرة و الذي عرضته هو الاخر الى جانب الرواية للكاتب الذي عبر لي اعجابه بالكتاب و انه سينشره بعد القليل من الدوزنة و الترتيب الذي كان ينقصه حسبه الامر الذي اعتبرته تشريفا من كاتب لامست قدرته على الانتصاب الابداعي في كتابه ذاك مما دفع بشهوتي للابداع

في النهاية احسست ان كتاب كفن للموت قد كان علاجا نفسيا لي قد عالجني من ذلك الخوف الابكم الذي كان يتربع بداخلي و استطعت تجاوز الفوبيا فعبد الرزاق بوكبة بابداعه دفع الكل لشراء كفن لموته و هو على قيد الحياة فهنيئا للقاريء العربي هذا الكتاب

انور رحماني

 

 

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *